هذا ولم يستنقذها الخادم إلا بإنضاء سلاح أنفته الوقعة الأولى التي استأصلت حماة البلاد، واستباحت أغيالها بقتل الآساد، فكانت لهذا الفتح عنوانا، ولتقرير أصوله بنيانا، ولم ينج بها من طواغيت الكفر إلا طاغية ترابلس، فإن السيوف أسأرته وبفؤاده قلق من أوجالها، وفي عينه دهش من أهوالها، وقد قرن الله هذا الفتح ببشرى موته.
وكفى المسلمين مؤنة الاهتمام لفوته، ففر من الوقعة، ولم ينج بذلك الفرار، واعتصم بذات جداره، فقتله الخوف من وراء الجدار، ولا فرق بين قتيل خوف السفار، وبين قتيل الشفار، ولقد فر من المكروه إلى مثله، لكنه انتقل من ميتة عزه إلى ميتة ذله.
وكذلك آثار الخادم في أعداء الله فهم هلكى بسيفه في مواقف الطراد، فإن فروا فبخوفه على جنوب الوساد، وبعد هذه فهل يمترون في أن دمائهم قد استجابت لمراده، وأن سواء لديه من أمكن منها في دنوه، ومن امتنع منها في بعاده، وكل ذلك مستمد من الاستنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن تجعل الرؤيا حقًّا، وأحاديث الآمال صدقا، وتقرب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا والغرب شرقا، فهذا الفتح منسوب إليها، وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله، والمجاهد بنفسه وماله في سبيله، فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه، وفي أيامها تؤرخ أيامه.
ولو أبيح للقلم الخيلاء في مقام المقال، كما أبيح لصاحبه في مقام القتال، لاختالت مشيته في هذا الكتاب، ولقال: وأسهب فليس الإكثار ههنا من الإسهاب، لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله، وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز، فلم يقبضه بالأدب حين أرسله، وقد ارتاد من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي، فأحسن الناس بيانًا مؤهل لإيداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والأيام والليالي رواة، فما الظن برواية الأيام والليال؟