للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ١ فهذا الاعتراض بين إذا وجوابها؛ لأن تقدير الكلام وإذا بدلنا آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر، فاعترض بينهما بقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} وهو مبتدأ وخبر، وفائدته إعلام القائلين أنه مفتر أن ذلك من الله وليس منه، وأنه أعلم بذلك منهم.

ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ٢.

ألا ترى إلى هذا الاعتراض الذي قد طبق مفصل البلاغة، وفائدته أنه لما أوصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المشاق في حمل الولد وفصاله، إيجابا للتوصية بها، وتذكيرا بحقها، وإنما خصها بالذكر دون الأب؛ لأنها تتكلف من أمر الولد ما لا يتكلفه, ومن ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: من أبر? فقال: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك".

ومما جاء على هذا الأسلوب قوله عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ٣.

فقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته أن يقرر في نفوس المخاطبين وقلوب السامعين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك النفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه؛ لأن الله تعالى مظهر لذلك، ولو جاء الكلام غير معترض فيه لكان: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} , {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} ، ولا يخفى على البليغ الفرق بين ذلك وبين كونه معترضا فيه.

ومما ورد من ذلك شعرا قول امرئ القيس:

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال


١ النحل: ١٥١.
٢ لقمان: ١٤.
٣ البقرة: ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>