للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما خصت الابتداءات بالاختيار؛ لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استماعه.

ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن الكريم، كالتحميدات المفتتح بها في أوائل السور، وكذلك الابتداءات بالنداء كقوله تعالى في مفتتح سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وكقوله تعالى في أول سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه.

وكذلك الابتداءات بالحروف كقوله تعالى: "ألم وطس وحم" وغير ذلك، فإن هذا أيضًا يبعث على الاستماع إليه؛ لأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادة، فيكون ذلك سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه.

ومن قبيح الابتداءات قول ذي الرمة:

ما بال عينك منها الماء ينسكب١

لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لا خفاء بقبحه وكراهته.

ولما أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها:

خف القطين فراحوا منك أو بكروا٢

قال له عند ذلك: لا، بل منك، وتطير


١ كانت عين عبد الملك دائمة الدمع، فلما افتتح ذو الرمة قصيدته في مدحه بقوله:
ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأن من كلى مفرية سرب
وهو لا يخاطبه في الحقيقة وإنما يخاطب نفسه على سبيل التجريد، لم يسترح عبد الملك إلى قبح المواجهة بهذه الصورة؛ لأنها توهم أنه هو المراد، فقال له: وما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة، وكرهه وأمر بإخراجه.
٢ الشطر الثاني: وأزعجتهم نوى في صرفها غير "الديوان ١٠٤".

<<  <  ج: ص:  >  >>