للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه الأبيات حسنة، وخروجها من شدق هذا الرجل الخباز عجيب، ولو جاءت في شعر أبي نواس لزانت ديوانه.

والاقتضاب الوارد في الشعر كثير لا يحصى, والتخلص بالنسبة إليه قطرة من بحر، ولا يكاد يوجد التخلص في شعر الشاعر المجيد إلا قليلا بالنسبة إلى المقتضب من شعره.

فمن الاقتضاب قول أبي نواس في قصيدته النونية التي أولها:

يا كثير النوح في الدمن

وهذه القصيدة هي عين شعره, والملاحة للعيون، وهي تنزل منه منزلة الألف لا منزلة النون، إلا أنه لم يكمل حسنها بالتخلص من الغزل إلى المديح، بل اقتضبه اقتضابا، فبينا هو يصف الخمر ويقول:

فاسقني كأسا على عذل ... كرهت مسموعه أذني

من كميت اللون صافية ... خير ما سلسلت في بدني

ما استقرت في فؤاد فتى ... فدرى ما لوعة الحزن

حتى قال:

تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسنن

سن للناس الندى فندوا ... فكأن البخل لم يكن١

فأكثر مدائح أبي نواس مقتضبة هكذا، والتخلص غير ممكن في كل الأحوال، وهو من مستصعبات علم البيان.

ومن هذا الباب الذي نحن بصدد ذكره قول البحتري في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان وذكر لقاءه الأسد وقتله إياه، وأولها


١ الديوان ٤١٢ ومطلعها:
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن

<<  <  ج: ص:  >  >>