كلمة معجمة وكلمة مهملة، والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم، ونظم غيره شعرا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه، وكل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة، فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة؛ لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها، على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا، وكذلك البلاغة فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني، من قولنا بلغت المكان إذا انتهيت إليه.
وهذا الكلام المصوغ مما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر في شعره لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة، وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة، وسبب ذلك أنها تستكره استكراها، وتوضع في غير مواضعها، وكذلك ألفاظه، فإنها تجيء مكرهة أيضًا غير ملائمة لأخواتها، وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني، فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه، ولا داخلا في بابه.
ولو كان ذلك مما يوصف بحسن ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز وجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة أو ورد في كلام العرب الفصحاء، ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خطبهم.
ولقد رأيت رجلا أديبا من أهل المغرب، وقد تغلغل في شيء عجيب وذاك أنه شجر شجرة ونظمها شعرا، وكل بيت من ذلك الشعر يقرأ على ضروب من الأساليب اتباعا لشعب تلك الشجرة وأغصانها، فتارة تقرأ كذا، وتارة تقرأ كذا، وتارة يكون جزء منه ههنا، وتارة ههنا، وتارة يقرأ مقلوبا، وكل ذلك الشعر وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان، والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة، لا بدرجة الفصاحة والبلاغة.