للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء.

أما أبو تمام فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي برز فيه على الأضراب.

ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه, أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلم ففوق كل ذي علم عليم.

وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبت بريف العراق.

وسئل أبو الطيب المتنبي عنه، وعن أبي تمام، وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري، ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية١، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.

وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم


١ الطيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>