للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية، ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره.

على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، وما من أحد إلا ويحب أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخط بيده، ورأيت أغتام١ الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة، كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر، ويأتون فيه بكل مضحكة، وهم يظنون أنهم عالمون به، ولا لوم عليهم، فإنه بلغني عن ابن الأعرابي٢ -وكان من مشاهير العلماء- أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها:

وعاذل عذلته في عذله

وقيل له هذه لفلان من شعراء العرب، فاستحسنها غاية الاستحسان، وقال هذا هو الديباج الخسرواني٣، ثم استكتبها، فلما أنهاها قيل له هذه لأبي تمام، فقال: من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة. ثم ألقى الورقة من يده، وقال: يا غلام خرق خرق٤.


١ الأغتم: من لا يفصح شيئا، جمعه غتم على وزن قفل.
٢ أبو عبد الله محمد بن زياد كان من أكابر أئمة اللغة بالكوفة، وكان ربيبا للمفضل الضبي وسمع عنه الدواوين وصححها، وكان من أحفظ الناس للغة والأنساب، توفي سنة ٢٣١هـ "الفهرست ٦٩ ووفيات الأعيان ١/ ٤٩٢".
٣ الديباج الخسرواني. الحرير الفارسي الفاخر.
٤ في الصناعتين ٤٥ أن ابن الأعربي كان يأمر بكتابة جميع ما يجري في مجلسه، فأنشده رجل يوما أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب، على أنها لبعض العرب.
سارية لم تكتمل بغمض ... كدراء ذات هطلان محض
فقال ابن الأعرابي. اكتبوها. فلما كتبوها قيل له: إنها لحبيب بن أوس، قال: خرق خرق، لا جرم أن أثر الصنعة فيها بيّن.

<<  <  ج: ص:  >  >>