السكاكي القدوة، حيث عدل في كتابه (المِفتاح) عن المصطلحات البلاغية التي رسخت في أذهان السابقين، مثل "المغالطة" عند الشيخ عبد القاهر، فإن السكاكي سماها "أسلوب الحكيم"؛ لأنه ورد في الذكر الحكيم، وكذا "تجاهل عارف" سماه السكاكي "سَوْق المعلوم مساقَ غيره"؛ لوجوده في كلام العليم الخبير. والفاصلة أولى من السجع؛ لورودها في القرآن كثيرًا:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}(فصلت: ٣){كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(هود: ١). والحق أن إيثار التعبير بالفواصل القرآنية فيه خروج من هذا الخلاف الشكلي حول إطلاق السجع على الفاصلة القرآنية، وقد رأيتَ ما يحدثه تلازمُ الفواصل من إثارة الشعور، ودفع الملل، وجذب المخاطبين، وبخاصة في هذه البيئة الشاعرة التي نزل فيها القرآن الكريم.
يساعد على هذا أن الفاصلة أعم من السجع، حيث إنها تطلق على أواخر الآي، سواء اتفقت الأحرف أم اختلفت، على سبيل المثال قول الله تعالى:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}(قريش: ١ - ٤) تجد أن لذة التلاوة وحلاوتها كامنة في الكلمات: {قُرَيْشٍ}، {وَالصَّيْفِ} و {الْبَيْتِ}، و {خَوْفٍ} فإن هذه الكلمات الأربع تنتهي بأحرف مختلفة، ولكنها من فصيلة واحدة وهي حروف الهمس، وكل كلمة قبل آخرها حرف مد ولين، وهذا الحرف يمد حركتين أو أربعًا أو سِتًا ويسمى مدًّا عارضًا للسكون. وهذا التنغيم الصوتي يؤدي إلى جمال الأداء مع جمال اللفظ مع جمال المعنى مع جمال الهدف، كل هذا يؤدي إلى دخول القرآن القلبَ لعوامل شتى، منها الأداء اللفظي مع الفاصلة القرآنية التي تأتي، والمعنى في قرن واحد.