الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه أما بعد:
عرفنا مما سبق أن هناك علاقةً عضوية تربط بين أصول الفقه وأصول النحو، وقد أكّد أبو البركات الأنباريُّ هذه العَلاقةَ في مؤلفاته التي سار بها على نهج الفقهاء ومصطلحاتهم؛ ومن هنا كانت أول إشارة وردت بلفظ استصحاب الحال صادرةً عنه، ثم تناقلها النحويون مِن بعدِهِ، وقد وقفنا على قوله في (لمع الأدلة): "وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة، والمراد به استصحابُ حال الأصل في الأسماء، وهو الإعراب، واستصحاب حال الأصل في الأفعال، وهو البناء، حتى يوجد في الأسماءِ ما يُوجب البناءَ، ويوجدَ في الأفعالِ ما يُوجب الإعرابَ". انتهى.
وقد تكرّر حديثُه عن الاستصحاب في كتابه (الإنصاف) ووصفُه إياه بأنه من الأدلة المعتبرة، كقوله في المسألة السابعة والخمسين على لسان البصريين؛ في معرض إبداء حجتهم في أنه لا يجوز الخفض في القسم بإضمار حرف الخفض من غير عوض -قال على لسانهم:"أجمعْنا على أنّ الأصل في حروف الجرّ ألا تعملَ مع الحذفِ، وإنما تعملُ مع الحذف في بعض المواضع إذا كان لها عوضٌ، ولم يوجد ها هنا، فبقِينا فيما عداه على الأصل، والتمسكُ بالأصل تمسُّكٌ باستصحاب الحال، وهو من الأدلة المعتبرة". انتهى.
كما ذكر أنّ التمسكَ باستصحاب الحال خروجٌ مِن عهدةِ المطالبةِ بالدليل، ومَن عدَلَ عن الأصل فقد بقيَ مرتهَنًا بإقامة الدليل؛ ففي المسألة الأربعين -التي عرضنا طَرَفًا منها- قال على لسان البصريين في استدلالهم على أنّ كمْ مفردةٌ وليست مركبةً كما ذهب إلى ذلك الكوفيون: "إنما قلنا: إنها مفردةٌ؛ لأنّ الأصلَ