لقد عقد ابن جني في كتابه (الخصائص) بابًا عنوانه: باب في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد، وقد وصف هذا الموضع بأنه موضع يجب أن يُنبه عليه، ويحرر القول فيه، والمراد بمراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد، هو أنه إذا تعارض في الكلام أصلان أحدهما قريب والآخر بعيد؛ وجب الرجوع إلى الأصل القريب دون البعيد.
ومما تعارض فيه أصلان ضم الذال من كلمة مذ في نحو: ما رأيته مذ اليوم، فإن الأصل في الكلمة أن تكون ساكنة ويليها ساكن، فكان القياس أن يتخلص من التقاء الساكنين بالكسر، كما هو الشأن دائمًا في كل ساكنين التقيا، فالتخلص منهما يكون بكسر أولهما فيقال: ما رأيته مذِ اليوم، ولكن هذا الأصل قد عارضه أصل آخر؛ لأن أصلها الضم في منذ، وضُمت فيه لالتقاء الساكنين إتباعًا لضمة الميم، فهنا أصلان تعارضا؛ الأول: الأصل الأبعد وهو السكون، والثاني: الأصل الأقرب وهو الضم، فكان الرجوع إلى الأصل الأقرب أولى، فضمت الذال من مذ عند التقاء الساكنين؛ ردًّا إلى الأصل الأقرب وهو ضم منذ، ولم ترد إلى الأبعد الذي هو سكونها، لأن مراجعة الأصل الأقرب أولى من مراجعة الأبعد.
ومما تعارض فيه أصلان أيضًا أحدهما قريب والآخر بعيد قولهم: بعت بكسر الباء، وقلت بضم القاف فأصل الفعلين باع وقال أن يكونا على وزن فعل بفتح العين، فلما أسندا إلى تاء الفاعل نُقل الفعل باع إلى وزن فعل بكسر العين، ونقل الفعل قال إلى وزن فعل بضم العين، ثم قلبت كل من الواو والياء ألفًا لتحركهما