الحكم إذا كان أحد القولين المتعارضين مرسلًا والآخر معللًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
إن المجتهد الواحد قد يكون له في المسألة الواحدة قولان؛ لاختلاف نظره فيها، وتغير اجتهاده إزاءها، ولقد قضى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث، فقال له رجل:"إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم". وقد يكون للعالم الواحد قولان متعارضان في المسألة الواحدة في كتاب واحد من كتبه، أو في كتابين، وحينئذٍ يقف القارئ حائرًا، فلا يدري أيَّ القولين يأخذ وأي القولين يدع. وقد أفرد ابن جني -رحمه الله تعالى- بابًا في (الخصائص) عنوانه: باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين، وقد وضع في هذا الباب بعض القواعد التي يُمكن للقارئ أن يتعرف في ضوئها على ما ينبغي عليه الأخذ به وما يجب عليه أن يتركه، وما هو مخير بين أخذه وتركه، وذكر أن ذلك على أوجه:
أحدها: إذا كان أحد القولين مرسلًا أي: غير مقيد بالدليل، والآخر معللًا أي: مقيدًا بالدليل مصحوبًا بالعلة، أُخذ بالمعلل لقيام حجته، وترك المرسل لضعفه، وعدم قيام حجته. ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل يعني: أن يصرف عن ظاهر معناه إلى ما يطابق معنى المعلل؛ لإزالة التضاد بين القولين.
ومن الأمثلة التي أوردها ابن جني على ذلك قول صاحب (الكتاب) أي: سيبويه في غير موضع في التاء من بنت وأخت: "إنها للتأنيث"، أي: ولم يذكر علة كونها للتأنيث، وقال أيضًا مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف:"إنها ليست للتأنيث"، واعتل لهذا القول أي: لأنها ليست للتأنيث بأن ما قبلها