الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
إن استصحاب الحال من أصول النحو الغالبة عند الأنباري، فقد قال في (لمع الأدلة): "وهو -أي: الاستصحاب- من الأدلة المعتبرة" انتهى. ومع عدِّه إيَّاه من أصول النحو الغالبة ذكر أنه أضعف الأدلة فقال:"واستصحاب الحال من أضعف الأدلة ولهذا لا يجوز التمسك به ما وُجد هناك دليل" انتهى. ويدل على ضعفه ما نقله السيوطي من أنه إذا تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع، أو قياس؛ فلا عبرة به أي: لا اعتداد بالاستصحاب، ولا التفات إليه؛ لقوة الدليل الآخر الذي يقابله ويعارضه، فيقدم السماع أو القياس على الاستصحاب، وعلة ذلك هي أن الأصل المستصحب إنما جرَّده النحاة، فأصبح من عملهم، ولم يكن من عمل العربي صاحب السليقة، فإذا عرضه السماع فالسماع أرجح؛ لأن ما يقوله العربي أولى مما يجرده النحوي، وإذا عارضه القياس فالقياس أرجح؛ لأن القياس وإن كان تجريدًا فهو حمل على ما قاله العربي، فاستصحاب الحال من أدلة النحو التي تتصف بالقوة تارة وبالضعف تارة أخرى، فهو دليل من الأدلة المعتبرة إن لم يعارضه دليل غيره من سماع أو قياس، فإن عارضه دليل منهما فهو حينئذٍ من أضعف الأدلة.
وقد عرفت فيما تقدم أن التمسك بالأصل تمسك باستصحاب الأصل، فمن تمسك بالأصل من النحويين في إثبات دعواه فقد تمسك بالاستصحاب، وهذا يدلُّك على أن هذا الدليل شائع في سائر المؤلفات النحوية، وليس مقصورًا على ما ورد في مؤلفات الأنباري، كل ما هنالك أن المصطلح هو الذي ظهر في كتب الأنباري متأثرًا بثقافته الفقهية، وحينما طرحنا السؤال الآتي: ما مكانة هذا الدليل بين الأدلة الأخرى عند الأنباري؟ أجاب الأنباري نفسه عن هذا السؤال مرة في (الإغراب في جدل الإعراب)