لقد أفرد ابن جني بابًا في كتابه (الخصائص) عنوانه: باب اختلاف اللغات وكلها حجة، وعليه عول السيوطي في هذه المسألة، فقد أجاز ابن جني فيه الاحتجاج بجميع لغات العرب، وليس المراد جميع ما نطقت العرب به، بل المراد باللغات لغات القبائل التي يؤخذ عنها ويعتد بفصاحتها، إذ إن علماء العربية لم يأخذوا عن جميع القبائل وإنما أخذوا عن بعضها وأعرضوا عن بعض، فأخذوا عن القبائل التي سلم أهلها من الاختلاط بالأعاجم، وأعرضوا عن القبائل التي لم تسلم من ذلك، فتسرب إلى ألسنتهم اللحن والخطأ في البنية أو التركيب.
وقد قال ابن جني:"باب اختلاف اللغات وكلها حجة، اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم، ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال "ما" يقبلها القياس، ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك؛ لأن لكل واحد من القومين ضربًا من القياس يؤخذ به، ويخلد إلى مثله، وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما، فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسًا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، أَوَ لا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم:((نزَلَ القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ)) ". انتهى. ونلحظ في كلام ابن جني: أن له عناية واضحة بالقياس، وقد تجلت هذه العناية في أمرين:
أحدهما: أنه قد جعل اللغات على اختلافها حجة إذا كانت هذه اللغات موافقة للقياس، فإن كانت إحداها مخالفة له فهي لغة مردودة مرغوب عنها. والآخر: أنه قد أوجب على المتكلم أن يختار إحدى اللغتين، وهو معتقد أنه الأقوى قياسًا وأن