يترك الأخذ بالأخرى وهو معتقد أنها الأضعف من جهة القياس. كما نلحظ أن ابن جني يرفض رد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنهما متساويتان في قبول القياس لهما، ولذلك قال:"فأما رد إحداهما بالأخرى فلا".
وقوله:"غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما" معناه: أن الواجب على المتكلم إذا وجد لغتين يقبلهما القياسُ أن يتخير إحدى اللغتين؛ لعدم إمكان الأخذ بهما معًا، إذ لا يمكن الجمع بين لغتين في وقت واحد، وضرب ابن جني لذلك مثلًا وهو إعمال ما وإهمالها، فإن للعرب لغتين في ذلك؛ الأولى: إعمالها عمل ليس وهي لغة الحجازيين، والثانية: إهمالها وهي لغة التميميين، والقياس يقبل اللغتين ولا يرد واحدة منهما.
ومما تقدم نلحظ: أن اللغتين يقبلهما القياس فيجب قبولهما ولا يجوز رد واحدة منهما، وإنما نقدم إحداهما على الأخرى مع الاعتقاد بصحة الأخرى، وفصاحتها، واللغة المقدمة من هاتين اللغتين هي لغة الحجازيين في إعمال ما عمل ليس؛ لأنها اللغة التي بها نزل القرآن الكريم، إذ يقول الله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا}(يوسف: ٣١) وقد كثر استعمالها كثرة ظاهرة، ولا يجوز رد لغة التميميين؛ لأن هاتين اللغتين لغتان متساويتان في القياس، فليست إحداهما أحق من الأخرى. أما إذا تباعدت اللغتان فكانت إحداهما كثيرة جدًّا وكانت الأخرى قليلة جدًّا، فلا يجوز القياس على اللغة القليلة، وإنما يقتصر فيها على المسموع ولا يتجاوز، وقد ذكر ابن جني أنه إن قَلت إحدى اللغتين جدًّا وكثرت الأخرى جدًّا، أخذتَ بأوسعهما روايةً وأقواهما قياسًا، ألا ترى أنك لا تقول: مررت بَك، ولا المال لِكَ؛ قياسًا على قول قُضاعة: المال لِه ومررت بَه، ولا تقول: أكرمتكش ولا أكرمتكس؛ قياسًا على لغة من قال: مررت بكش، وعجبت منكس، انتهى.