للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالحجُّ المبرورُ ما اجتمع فيه فِعلُ أعمالِ البِرِّ مع اجتنابِ أعمالِ الإثمِ، فما دعا الحاجُ لنفسِهِ ولا دعا له غيرُهُ بأحسَنَ من الدُّعاءِ بأنْ يكونَ حجُّهُ مبرورًا. ولهذا يُشرَعُ للحاج إذا فَرَغَ من أعمالِ حَجّه وشَرَعَ في التحلُّل من إحرامِهِ بِرَمْي جَمْرَةِ العَقَبَةِ يومَ النَّحْرِ أنْ يقول: اللهم اجعلْهُ حجًّا مبرورًا، وسَعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما، وروي عنهما مرفوعًا. وكذلك يُدعَى للقادم من الحج بأن يجعَلَ الله حجَّه مبرورًا.

وفي الأثر أن آدمَ عليه السلامُ لمَّا حجَّ البيتَ وقضَى نُسُكَهُ أتتْهُ الملائكةُ، فقالوا له: يا آدمُ! بَرَّ حجُّك! لقد حَجَجْنا هذا البيتَ قبلَكَ بألفي عام. وكذلك كان السَّلَفُ يَدعُون لمن رَجَعَ من حَجِّه. لمَّا حجَّ خالدٌ الحذَّاءُ (١) ورجَعَ، قال له أبو قِلابةَ (٢): بَرَّ العمَلُ! معناه: جعَلَ الله عملَكَ مبرورًا. للحجِّ المبرورِ علاماتٌ لا تخفَى:

قيل للحسن: الحجُّ المبرورُ جزاؤه الجنة. قال: آيةُ ذلك أن يرجِعَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. وقيل له: جزاءُ الحجِّ المبرور (٣) المغفرةُ. قال: آيةُ ذلك أن يَدَعَ سيئَ ما كان عليه من العمل. الحجّ المبرورُ مثلُ حجِّ إبراهيمَ بن أدهم (٤) مع رفيقه الرَّجُلِ الصَّالحِ الذي صحِبَهُ من بَلْخ (٥)، فرجَعَ من حجِّه زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، وخرَجَ عن مُلْكِهِ ومالِه وأهلِه وعشيرتِه وبلادِه، واختارَ بلادَ الغُرْبَةِ، وقَنَعَ بالأكلِ من عملِ يدِه؛ إمَّا من الحصاد، أو من نِظَارَةِ البساتينِ.


(١) هو خالد بن مِهران الحذَّاء، أبو المنازل البصريّ. كثير الحديث، كان رجلًا مهيبًا ثقة. توفي سنة ١٤١ هـ.
(٢) هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجَرْمي، أبو قلابة البصري. تابعي، ثقة، فاضل. مرض أبو قلابة بالشام، فأتاه عمر بن عبد العزيز يعوده، فقال: يا أبا قلابة! تشدَّد، لا يشمت بنا المنافقون. مات بالشام سنة ١٠٤ أو ١٠٥ هـ.
(٣) لفظ "المبرور" لم يرد في ب، ط.
(٤) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، أبو إسحاق، زاهد مشهور، من الأشراف، كان أبوه كثير المال والخدم، ومن أهل الغنى في بلخ، فتفقَّه إبراهيم ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وكان يعيش من العمل بالحصاد وحفظ البساتين والحمل والطحن، كما يشترك مع الغزاة في قتال الروم. مات سنة ١٦١ هـ. انظر أخباره مفصلة في تهذيب تاريخ ابن عساكر ٢/ ١٦٧ ومختصره لابن منظور ٤/ ١٧، وصفة الصفوة ٤/ ١٥٢.
(٥) بَلْخ: مدينة مشهورة بخراسان. (ياقوت).

<<  <   >  >>