للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حجَّ مرَّةً مع جماعةٍ من أصحابه، فشرَطَ عليهم في ابتداء السَّفَرِ ألَّا يتكلَّمَ أحدُهم إلا الله تعالى، ولا ينظرَ إلا له. فلمَّا وصَلُوا وطافُوا بالبيت رأوا جماعةً من أهلِ خُراسانَ في الطوافِ معهم غُلامٌ جميلٌ قد فُتِنَ النَّاسُ بالنظر إليه، فجَعَلَ إبراهيمُ يسارِقُهُ النظرَ ويبكي، فقال له بعضُ أصحابه: يا أبا إسحاق! ألم تقُلْ لنا لا تنظروا (١) إلا لله تعالى؟ فقال: ويحكَ! هذا ولدي، وهؤلاء خدمي وحشَمِي، [ثم أنشد] (٢):

هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرًّا في هواكَ … وأيتمْتُ العِيالَ لكي أَرَاكَا

فلو قطَّعْتَنِي في الحبِّ إرْبًا … لَما حَنَّ الفؤادُ إلى سوَاكا

قال بعضُ السَّلَف: استِلامُ الحجَرِ الأسوَدِ هو ألَّا يعودَ إلى مَعْصيةٍ. يشير إلى ما قاله ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن الحجَرَ الأسودَ يمينُ اللهِ في الأرضِ، فمن استلَمَه وصافَحَه فكأنما صافَحَ الله وقبَّلَ يمينَه. وقال عكْرمَةُ: الحجَرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ، فَمَنْ لم يدرِكْ بَيْعَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَحَ. الرُّكْنَ فقد بايَعَ الله ورسولَه. وورد في حديثٍ أن الله لمَّا استخرَجَ من ظهر آدمَ ذرّيَّتَه وأخذَ عليهم الميثاقَ، كتبَ ذلك العهدَ في رَقٍّ (٣)، ثم استودَعَه هذا الحَجَر، فمِنْ ثَمَّ يقولُ مَنْ يستَلِمهُ: وفاء بعهدِكَ. فمستلِمُ الحجَر يبايعُ الله على اجتناب معاصيه (٤)، والقيام بحقوقه {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠)} (٥).

يا مُعَاهِدينا على التَّوبةِ! بينَنا وبينَكم عهودٌ أكيدَةٌ، أوَّلُها: يومَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (٦). والمقصُودُ الأعظمُ مِن هذا العهدِ ألَّا تعبُدُوا إلَّا إياهُ. وتمامُ العَمَل بمقتضاهُ أن اتَّقُوا اللّه حقَّ تقواه (٧). وثانيها: يومَ أرسَلَ إليكم رسولَه وأنزلَ عليه في كتابه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (٨).


(١) في ب، ش، ط: "لا ننظر".
(٢) زيادة من آ، ش.
(٣) الرَّق، بالفتح: ما يكتب فيه، وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)}.
(٤) في آ: "معصيته".
(٥) سورة الفتح الآية ١٠.
(٦) سورة الأعراف الآية ١٧٢.
(٧) في سورة آل عمران الآية ١٠٢ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية.
(٨) سورة البقرة الآية ٤٠.

<<  <   >  >>