للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونهيُهُ عن الدخولِ إلى موضعِ الطَّاعونِ، فإنَّه مِن بابِ اجتِناب الأسبابِ التي خَلَقَها اللهُ تعالى، وجعلَها أسبابًا للهلاكِ أو الأذَى. والعبدُ مأمورٌ باتقاءَ أسباب البَلاء إذا كان في عافيةٍ منها، فكما أنه يُؤمَرُ أن لا يُلْقيَ نفسَه في الماءِ، أو في النار، أو يدخُلَ تحتَ الهَدْمِ ونحوِهِ، مِمَّا جرت به (١) العادَةُ بأنَّه يُهلِكُ أو يُؤذِي، فكذلك اجتِنابُ مقارَبَةِ المريضِ كالمجذومِ، أو القُدومِ على بلدِ الطاعونِ؛ فإنَّ هذه كلَّها أسبابٌ للمرضِ والتَّلَفِ؛ والله تعالى هو خالقُ الأسبابِ ومُسَبَباتها، لا خالِقَ غيرُه، ولا مقدِّرَ غيرُه.

وقد رُوي في حديثٍ مرسل خرَّجَه أبو داود في "مراسيله" أن النبيَّ يكون مَرَّ بحائطٍ مائلٍ فأسرَعَ وقالَ: "أخافُ مَوْتَ الفَوَاتِ" (٢). ورُوي متصلًا، والمرسَلُ أصَحُّ. وهذه الأسبابُ التي جعلها الله أسبابًا يخلُقُ المُسبِّبات بها كما دَلَّ عليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (٣). وقالت طائفة: إنه يخلُقُ المسبّباتِ عِندَها لا بِها.

وأمَّا إذا قَوِيَ التوكُّلُ على الله تعالى والإِيمانُ بقضائِه وقدَرِه، فقوَيتِ النَّفْسُ على مباشرَةِ بعضِ هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاءً منه ألَّا يحصُلَ به ضررٌ، ففي هذه الحال تجوزُ مباشرةُ ذلك، لا سيَّما إذا كان فيه مصلحة عامَّةٌ أو خاصّةٌ. وعلى مثل هذا يُحملُ الحديثُ الذي خرجه أبو داود (٤) والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بيدِ مَجْذوم، فأدخَلَهَا مَعَهُ في القَصْعَةِ، ثم قال: "كُلْ باسْم اللهِ، ثقة باللهِ، وتوكُّلًا عليه". وقد أخذَ بهِ الإِمامُ أحمد. وقد رُوي نحو ذلك عن عُمَرَ وابنِه عبدِ اللهِ وسلمان رضي الله عنهم.


(١) لفظ "به" زيادة من آ، ع.
(٢) مسند أحمد ٢/ ٣٥٦ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وموت الفَوَات: موت الفجَاءة.
(٣) سورة الأعراف الآية ٥٧.
(٤) أخرجه أبو داود رقم (٣٩٢٥) في الطب: باب في الطيرة، والترمذي رقم (١٨١٨): باب ما جاء في الأكل مع المجذوم، من حديث المفضل بن فضالة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن المنكدر، وإسناده ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة هذا شيخ مصري، والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثق من هذا وأضهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن ابن عمر أخذ بيد مجذوم؛ وحديث شعبة أثبت عندي وأصح. ورواه أيضًا الحاكم ١/ ١٣٧ وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار.

<<  <   >  >>