للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سمعَ نَعْقَ (١) الغُرابِ قال: اللهم لا طَيْرَ إلا طَيرُكَ، ولا خَيْرَ إلا خيْرُكَ.

وكذلك أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند انعقادِ أسباب العذاب السَّماويةِ المخوفةِ، كالكسُوفِ، بأعمالِ البِر؛ من الصَّلاةِ، والدُّعاءِ، والصَّدَقةِ، وَالعِتْقِ، حتى يُكشَفَ ذلك عن الناس. وهذا كله مما يدُلُّ على أن الأسبابَ المكروهةَ إذا وُجِدَت فإنَّ المَشروعَ الاشتغالُ بما يُرْجَى به دَفْعُ العذاب المَخُوفِ منها؛ من أعمالِ الطَّاعاتِ، والدُّعاءِ، وتحقيقِ التوكُّلِ على الله والثقة به، فإن هذه الأسبابَ كلَّها مُقْتضياتٌ لا مُوجباتٌ، ولها موانعُ تمنعُها. فأعمالُ البِرِّ والتَّقْوَى والدُّعاءُ والتوكُّلُ من أعظم ما يُستدفَعُ به.

ومن كلام بعضِ الحكماء المتقدِّمين: ضجيجُ الأصواتِ في هياكِلِ العباداتِ بأفنانِ (٢) اللغاتِ تُحَلِّلُ ما عَقَدَتهُ الأفلاكُ الدائراتُ؛ وهذا على زعمهم واعتقادِهم في الأفلاك. وأما اعتقادُ المسلمين فإنَّ الله وحدَه هو الفاعلُ لما يشاءُ، ولكنَّه يعقِدُ أسبابًا للعذابِ، وأسبابًا للرحمةِ؛ فأسبابُ العذابِ يُخوفُ الله بها عبادَه ليتوبوا إليه ويتضرعوا إليه، مَثلُ كُسوفِ الشمس والقمرِ؛ فإنّهَما آيتان من آيات الله يخوِّفُ الله بهما عبادَه؛ لينظرَ من يحدثُ له توبةً، فدَلَّ على أن كسوفَهما (٣) سببٌ يُخشَى منه وُقوعُ عذابٍ. وقد أمرَ عائشةَ رضي الله عنها أن تستعيذَ مِن شرِّ القَمَرِ، وقال: هو الغاسِقُ إذا وَقَبَ. وقد أَمَرَ الله تعالى بالاستعاذةِ مِن شر غاسقٍ إذا وَقَبَ، وهو الليلُ إذا أظلم؛ فإنه ينتشر فيه شياطينُ الجِنِّ والإنس. والاستعاذة مِن القَمَرِ؛ لأنه آية الليل، وفيه إشارة إلى أن شرَّ الليلِ المَخُوفِ لا يندفِعُ بإشراقِ القَمَرِ فيه، ولا يَصِيرُ بذلك كالنَّهارِ، بل يُستعاذُ منه وإن كان مقمرًا.

وخرَّج الطَّبراني (٤) من حديث جابرٍ مرفوعًا: "لا تَسُبُّوا اللَّيلَ، ولا النَّهارَ، ولا


(١) كذا في الأصول. وهو "نعيق الغراب"، ويقال بالغين "نغيق".
(٢) أفنان: ألوان وأنواع.
(٣) في آ، ع: "كسوفها".
(٤) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ٧١ باب النهي عن سب الليل والنهار وغير ذلك، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سعيد بن بشير، وثقه جماعة، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى (٤/ ١٣٩) بإسناد ضعيف". ويشهد للجزء المتعلق بالريح أحاديث صحيحة عند ابن ماجه والترمذي.

<<  <   >  >>