للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقلوبِ المؤمنين تتنزه فيه بسماع كلام الحكمة، كما تتنزه أبصارُ أهلِ الدُّنيا في رياضِها وبساتينها.

مجلسنا هذا حَضْرَةٌ في رَوضةِ الخُشُوعِ؛ طعامُنا فيه الجُوعُ، وشرابُنا فيه (١) الدُّموعُ، ونُقْلُنا (٢) هذا الكلامُ المسموعُ، نُداوِي فيه أمراضًا أعيَتْ جالينوسَ (٣) وبَخْتَيشُوعَ (٤)، نسقي فيه دِرياق (٥) الذنوب وفاروق المعاصي، فمن شربَ لم يكن له إلى المعصية رجوع. كم أفاقَ فيه منَ المعصيةِ مصروع، وبرِئَ فيه من الهوَى مَلْسُوع، ووصَلَ فيه إلى الله مقطوع، ما عيبُه إلَّا أنَّ الطبيبَ الذي له لو كان يستعمِلُ ما يصِفُ للنَّاسِ لكان إلى قوله المرجوع (٦).

يا ضيعةَ العُمر إنْ نَجَا السَّامِعُ وهلَكَ المسموع! يا خيبَةَ المَسْعَى إنْ وَصَلَ التَّابِعُ وانقطَعَ المتبوع!

وغَيْرُ تَقِيٍّ يأمُر النَّاسَ بالتُّقَى … طبيبٌ (٧) يُداوِي النَّاسَ وهو سَقِيمُ (٨)

يا أيُّها الرَّجُلُ المقوِّمُ غَيْرَهُ … هلَّا لنفسِكَ كانَ ذا التَّقويمُ

ابدأْ (٩) بنفسِكَ فانْهَها عَنْ غَيِّها … فإن (١٠) انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ

فهُناكَ يُقْبَلُ ما تَقولُ ويُقْتَدَى … بالقولِ مِنْكَ وينفعُ التَّعليمُ


(١) لفظة "فيه" لم ترد في آ، ش.
(٢) النُّقْل: ما يتنقّل به على الشراب من فواكه وكوامخ وغيرها، وما يتفكَّه به من جوز ولوز وبُندق ونحوها.
(٣) جالينوس: طبيب يوناني مات نحو ٢٠١ قبل الميلاد، له اكتشافات مهمة في التشريح، أخذ عنه أطباء العرب.
(٤) اشتهر بهذا الاسم عدد من الأطباء من أصل سرياني، منهم بختيشوع بن جرجس، مات نحو سنة ١٨٤ هـ.
(٥) الدِّرياق، ويقال: الترياق: دواء السموم.
(٦) في آ: "الرجوع".
(٧) في آ، ش: "مريض".
(٨) هذا البيت من البحر الطويل، وبقية الأبيات من الكامل. والبيت الأخير "لا تنه عن خلق .. " من شواهد النحو المشهورة، استشهد به سيبويه (١/ ٤٢٤) على نصب "تأتي" بإضمار "أَنْ" بعد واو المعية، والتقدير: لا يكن منك نهي وإتيان. والأبيات الثلاثة الأخيرة ذكرها البغدادي في شرح أبيات المغني (٦/ ١١٣) منسوبة إلى المتوكل بن عبد الله الليثي، كما نسبت إلى أبي الأسود الدؤلي. انظر كتاب الأمثال لأبي عبيد ص ٧٤، والمؤتلف والمختلف ٢٧٣، والأغاني ١٢/ ١٥٦، والمستقصى للزمخشري ٢/ ٢٦٠، والخزانة ٣/ ٦١٧، وديوان المتوكل الليثي ٢٨٣ - ٢٨٤، وديوان أبي الأسود ٤٠٤ ضمن قصيدة (في القسم المشكوك من شعره).
(٩) في ش، ع: "فابدأ".
(١٠) في ب، ط: "فإذا"، وهي رواية ثانية.

<<  <   >  >>