للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كُنْتُ متَّخِذًا من أهلِ الأرْضِ خليلًا، لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَلِيلًا، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسلام" (١). لمَّا كانَ الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - خليلَ اللّهِ (٢)، لَمْ يَصْلُحْ له أَنْ يُخالِلَ مخلوقًا، فإنَّ الخَليلَ مَنْ جَرَتْ محبَّةُ (٣) خليلِهِ منه مَجْرَى الرُّوحِ، ولا يَصْلُحُ هذا لبشرٍ، كما قيل:

قَدْ تَخلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوح مِنِّي … وَبذا سُمِّيَ الخَلِيلُ خَلِيلا

ولهذا المعنَى قيلَ: إن إبراهيمَ الخليلَ عليه السلام أُمِرَ بذبْحِ ولدِهِ، ولم يكن المقصودُ إراقَةَ دَمِ الوَلَدِ، بل تفريغُ محلِّ الخُلَّةِ لِمَنْ لا يَصْلُحُ أَنْ يُزَاحِمَه فيها أحَدٌ.

أرُوحُ وَقَدْ خَتَمْتُ على فؤادِي … بحبِّكَ أنْ يحِل بهِ سِواكَا

فَلو أنِّي استَطَعْتُ غَضَضْتُ طَرْفِي … فَلَمْ أنظُرْ بهِ حتَّى أرَاكَا

ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقيَنَّ خَوْخَة في المسجدِ إلا سُدَّتْ إلَّا خوخَةُ أبي بكرٍ" (٤).

وفي روايةٍ: "سُدُّوا هذه الأبوابَ الشَّارِعَةَ (٥) في المسجدِ إلَّا بابَ أبي بكرٍ" (٦).

وفي هذا الإشارَةُ إلى أنَّ أبا بكرٍ هُوَ الإمامُ بعدَه؛ فإن الإِمامَ يحتاجُ إلى سُكْنَى المسجدِ والاستطراقِ (٧) فيه، بخلافِ غيره، وذلك مِن مصالحِ المسلمينَ المصلِّينَ في المسجدِ، ثمَّ أَكَّدَ هذا المعنَى بأَمرِهِ صرِيحًا أنْ يصلِّيَ بالناسِ أبو بكرٍ، فرُوجِعَ في ذلك فغضِبَ، وقال: "مُرُوا أبا بكرٍ يصلِّي (٨) بالنَّاسِ"، فولَّاه إمامَةَ الصَّلاةِ دونَ غيرِه، [وأبقَى استطراقَهُ مِن دارِهِ إلى مكانِ الصلاةِ، وسَدَّ استِطْرَاقَ غيرِه] (٩)، وفي هذا إشارة واضِحةٌ إلى استخلافِهِ على الأمَّةِ دونَ غَيرِه، ولهذا قالَتِ الصَّحابةُ رضي الله عنهم عندَ


(١) رواه الترمذي رقم (٣٦٦١) في المناقب، باب مناقب أبي بكر الصِّدِّيق، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال، فإنه حسن بشواهده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وسكت عليه.
(٢) قوله: "خليل الله" لم يرد في (آ).
(٣) في آ: "من جرى صحبة"، وفي ش: "من جرت صحبة".
(٤) قطعة من حديث تقدم تخريجه.
(٥) الأبواب الشارعة: المفتوحة. ودُور شارعة، إذا كانت أبوابها شارعة في الطريق.
(٦) قطعة من حديث صحيح. وانظر تخريجه ورواياته في "جامع الأصول" ٨/ ٥٨٦ - ٥٨٧.
(٧) استَطرَق إلى الباب ونحوه: سلك الطريق إليه. واستَطرَق فلانًا: طلب من الطريق في حد من حدوده.
(٨) في ب، ط: "فليصل"، وهو قطعة من حديث حسن. انظر نصه وتخريجه في "جامع الأصول" ٨/ ٥٩٣ - ٥٩٤.
(٩) ما بين حاصرتين سقط من (آ).

<<  <   >  >>