للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: "يَا أبا مُويْهِبَة! إنِّي قَد أُعطِيتُ خَزائنَ الدُّنيا والخُلدَ ثم الجَنَّةَ، فخُيِّرتُ بينَ ذلك وبينَ لِقاء رَبِّي، فاخْتَرْتُ لِقاءَ رَبِّي والجنةَ، ثم انْصَرَف. فابتدأَهُ وجعُه الذي قَبَضَهُ الله فيه (١).

لما قوَيتْ مَعرِفَةُ الرسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بربه، ازدادَ حُبُّه وشوقُهُ إلى لِقائِه، فلمَّا خُيِّر بينَ البقاءِ في الدنيا وبينَ لِقاءِ ربهِ، اخْتَارَ لقاءَهُ على خزائنِ الدنيا والبقاءِ فيها. سُئلَ الشِّبْليُّ: هل يَقْنَعُ المُحبُّ بشيءٍ من حبيبهِ دون مشاهدتِه؟ فأنشَدَ:

واللهِ لو أنَّكَ تَوَّجْتَنِي … بتاجِ كِسْرَى مَلِكِ المَشْرِقِ

ولَوْ بأَموالِ الوَرَى جُدْتَ لِي … أَموال مَنْ بَادَ ومَنْ قَدْ بَقِي

وَقُلْتَ لِي لا نَلْتَقِي ساعَةً … اخْتَرْتُ يا مولايَ أنْ نَلْتَقِي

لمَّا عَرَّضَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ باختيارِه اللقاءَ على البقاءِ ولم يُصَرحْ، خَفِيَ المعنَى على كثيرٍ مِمّن سَمِعَ، ولم يَفهَمِ المقصُودَ غير صاحبِه الخَصِيصِ بِه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغَارِ} (٢). وكانَ أعلَمَ الأمّةِ بمقاصِدِ الرسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما فَهمَ المقصُودَ مِن هذه الإشارةِ بَكَى، وقال: بل نفدِيكَ بأموالِنا وأنفسِنا وأولادِنا، فسكَنَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - جَزَعَهُ، وأَخَذَ في مَدْحِهِ والثَّنَاءِ عليهِ على المِنْبَرِ، لِيَعلَمَ النَّاسُ كلُّهم فضلهُ، فلا يَقَعُ عليه اختِلافٌ في خلافتِهِ، فقال: "إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ على في صحبتِهِ ومالِهِ أبو بكر" (٣).

وفي روايةٍ أخرى أنه قال: "ما لأحَدٍ عندَنا يدٌ إلَّا وقَدْ كافينَاهُ، ما خَلَا أبا بكرٍ، فإنَّ له عندَنا يدًا يكافِئهُ اللّهُ يومَ القِيامَةِ بها، وما نَفَعنِي مالُ أحَدٍ قَطُّ ما نَفَعَنِي مالُ أبي بكرٍ"، خرَّجه الترمذيُّ (٤).


(١) رواه أحمد في "المسند" ٣/ ٤٨٨ و ٤٨٩ وأخرجه الحاكم من وجه آخر، وهو حديث حسن. وانظر: "الإصابة" لابن حجر في ترجمة أبي مويهبة ٤/ ١٨٨.
(٢) سورة التوبة، الآية ٤٠.
(٣) قطعة من حديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وقد تقدم تخريجه.
(٤) رواه الترمذي رقم (٣٦٦١) في المناقب، باب رقم (١٥) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد، فقد رواه بنحوه مختصرا ابن ماجه رقم (٩٤)، وابن حبان رقم (٢١٦٦) "موارد"، وأحمد في "المسند ٢/ ٣٦٦ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولآخره شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن مسلم رقم (٢٣٨٢)، فهو حديث حسن بشواهده.

<<  <   >  >>