للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنا أجِدُ صُداعًا في رأسِي، وأنا أقولُ: وا رأساه! قال: "بل أنا وا رأساه! "، ثم قال: "ما ضرَّكِ لو مُتِّ قبلي فغسَّلتُكِ وكفنْتُكِ، ثم صلَّيْتُ عليكِ ودفنْتُكِ؟ "، فقلْتُ: لكأنِّي بكَ واللهِ لو فعلْتَ ذلكَ، لَقَدْ رَجَعْتَ إلى بيتي فأعْرَسْتَ فيه ببعضِ نسائِكَ، فتبسَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ بُدِئَ في وَجَعِهِ الذي ماتَ فيه (١).

فقد تبيَّن أن أوَّلَ مَرَضِهِ كانَ صُداع الرأسِ، والظَّاهِرُ أنهُ كانَ مَعَ حُمَّى، فإنَّ الحُمَّى اشتدَّتْ بهِ في مرضِهِ، فكان يجلِس في مِخْضَبٍ (٢)، ويُصَبُّ عليهِ الماءُ مِن سبعِ قِرَبٍ، لم تُحْلَلْ أَوْكِيتُهُنَّ (٣)؛ يتبرَّد بذلك. وكانَ عليه قَطِيفة، فكانَتْ حَرارَةُ الحُمَّى تُصِيبُ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عليه (٤) من فوقها، فقيلَ له في ذلكَ، فقال: "إنَّا (٥) كذلِكَ يشَدَّدُ علينا البلاء ويضاعَفُ لنا الأجْرُ". وقال: "إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ منكم" (٦).

ومِن شِدَّةٍ وَجَعِهِ كانَ يُغْمَى عليه في مرضِه، ثم يفيقُ، وَحَصَلَ له ذلكَ غيرَ مرةٍ، فأُغمِيَ عليه مرة وظنُّوا أن وَجَعَهُ ذاتُ الجَنْب، فَلَدُّوهُ (٧)، فلمَّا أفَاقَ أَنْكَرَ ذلِكَ، وأَمَرَ أَنْ يُلَدَّ مَنْ لَدَّهُ، وقال: "إنَّ الله لم يَكُنْ ليُسَلِّطَها عليَّ" يعني ذاتَ الجَنْب، "ولكنهُ مِنَ الأكْلَةِ الَّتِي أكلْتُها يومَ خَيْبَرَ"، يعني أنه نَقَضَ عليه سَمُّ الشاةِ التي أهدَتْها لَه (٨) اليهوديَّةُ، فأكَلَ منها يومئذٍ، فكانَ ذلِكَ يَثُورُ عليهِ أحيانًا، فقال في مرض مَوْتهِ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ. تُعَاودني (٩)، فهذا أوانُ انقطاعِ أبْهَرِي (١٠) " (١١). وكان (١٢) ابن مسعودٍ وغيرُه يقولون: إنَّه ماتَ شهيدًا من السّمِّ.


(١) رواه أحمد في "المسند" ٦/ ٢٢٨، ورواه أيضًا ابن ماجه رقم (١٤٦٥) في الجنائز، باب: ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، وهو حديث حسن.
(٢) المِخْضبُ: شِبه الإجَّانةِ، يُغسَلُ فيها الثياب.
(٣) الوكاء: رباط القربة الذي يُشد به رأسُها.
(٤) في النسخة (آ): "عليها".
(٥) أي: الأنبياء.
(٦) رواه البخاري رقم (٥٦٤٨) في المرضى، باب: أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ ومسلم رقم (٢٥٧١) في البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من المرض أو الحزن.
(٧) اللدود: من الأدوية، وهو ما يسقاه المريض في أحد شِقّي الفم.
(٨) في آ: "إليه"، وكلاهما جائز.
(٩) في آ، ب: "تعتادني"، والمثبت من (ع، ش، ط).
(١٠) الأبهر: عرق في الظهر، يقال هو الوريد في العنق.
(١١) رواه الدارمي (١/ ٣٣)، وذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (٧٩١٥) وعزاه إلى ابن السني، ولأبي نُعيم في الطب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح، يشهد له حديث البخاري عن عائشة في الوفاة النبوية في المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته.
(١٢) في ش، ع: "فكان".

<<  <   >  >>