للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقالت عائشة: ما رأيْتُ أحدًا كانَ أشدَّ عليهِ الوجَعُ مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عندَهُ في مرضِهِ سبعةُ دنانِيرَ؛ فكانَ يأمرُهُم بالصَّدَقَةِ بها، ثم يُغْمَى عليه، فيشتغِلونَ بِوَجَعِه، فدَعَا بها فوضَعَها في كَفِّه، وقال: "ما ظَنُّ محمّدٍ بربِّهِ لو لَقِيَ الله وعندَهُ هذه؟ "، ثم تصَدَّقَ بها كلِّها، فكيفَ يكونُ حالُ مَنْ لَقِيَ الله تعالى وعندَهُ دماءُ المسلمينَ وأموالُهم المحرمَةُ؟! وما ظَنُّهُ بِرَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ عندَهُم في مرضِهِ دُهْنٌ للمِصباح يُوقَدُ فيه.

فلمَّا اشتَدَّ وَجَعُهُ ليلةَ الاثنين أرسلَتْ عائِشةُ بالمصباحِ إلى امرأةٍ مِنَ النساءِ، فقالَت: قَطِّري لنا في مِصْباحِنا مِن عُكَّةِ (١) السَّمنِ، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمسى في جديدِ (٢) الموتِ. وكان عند عائشةَ إزارٌ غَلِيظٌ مما يُصْنَعُ باليمن، وكِساءٌ مِن المُلَبَّدِ (٣)، فكانَتْ تُقْسِمُ باللَّهِ إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قُبِضَ فيهما.

ودخلَتْ عليه فاطِمَةُ رضي الله عنها في مرضِهِ، فسارَّها بشيءٍ فَبَكَتْ، ثم سارَّها فضحِكَتْ، فسُئِلَتْ عن ذلِكَ، فقالت: لا أُفشِي سِرَّ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فلمَّا تُوفِي سُئِلَتْ، فقالت: أخبرَني أنَّه يَموتُ في مرضِهِ، فَبكيتُ، ثم أَخبرَنِي أنِّي أوَّلُ أَهلِهِ لُحُوقًا بهِ، وأَنِّي سيَّدةُ نِساءِ العَالمين (٤)، فضحِكْتُ (٥). فلمَّا احتُضِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اشتدَّ بهِ الأمْرُ، فقالت عائشة: ما أَغْبِطُ أحدًا يُهَوَّنُ عليهِ الموتُ بعدَ الذي رأيْتُ مِن شدَّة (٦) موتِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.


(١) العُكَّةُ: أصغر من القِرْبة للسمن، وهو زُقَيْقٌ صغير، وجمعها عُكَكٌ وعِكاكٌ. والعُكَّةُ من السمن والعسل؛ قال ابن الأثير في النهاية: وهي وعاء من جلد مستدير يختص بهما، وهو بالسمن أخص. (اللسان).
(٢) جديدُ الموت: أوَّله.
(٣) في ب، ش، ع، ط: "الملبَّدة". والملبَّد: المرقَّع.
(٤) الذي في الصحيحين والترمذي: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة، أو سيدة نساء أهل الجنة".
(٥) رواه البخاري رقم (٦٢٨٥) و (٦٢٨٦) في الاستئذان، باب: من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر بسرِّ صاحبه، فإذا مات أخبر به، و (٣٧١٥) و (٣٧١٦) في فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم رقم (٢٤٥٠) (٩٧ - ٩٩) في فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبيِّ، عليها الصَّلاة والسَّلام؛ وابن ماجه رقم (١٦٢١) في الجنائز، باب: ما جاء في ذكر مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحمد في "المسند" ٦/ ٧٧ و ٢٤٠ و ٢٨٢ من حديث عائشة، رضي اللّه عنها، وقد ذكره المؤلف مختصرا وبالمعنى.
(٦) في آ: "من سكرة".

<<  <   >  >>