للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فاخْتارَ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ أفضلَ الأحوالِ؛ ليجمَعَ بينَ مقامي الشكْرِ والصَّبْرِ والرِّضا.

ومنها: ما أشارَ إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو: "لعلَّه أنْ يطولَ بكَ حياةٌ". يعني أن من تكلَّفَ الاجتهادَ في العِبادةِ فقد تحمِلُه قوَّةُ الشَّباب ما دامَتْ باقيةً، فإذا ذهَبَ الشبابُ وجاء المشيبُ والكِبَرُ عَجَزَ عن حملِ ذلك، فمن صَابَرَ (١) وجاهَدَ واسْتمرَّ فَرُبَّما هَلَكَ بَدَنُه، وإن قطعَ فقد فاتَهُ أحبُّ الأعمال (٢) إلى اللهِ تعالى، وهو المُدَاوَمَةُ على العَمَلِ. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ ما تُطيقُونَ، فواللهِ لا يَمَلُّ الله حتى تَمَلُّوا".

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحَبُّ العَمَلَ إلى اللهِ أَدْومُهُ، وإنْ قَلَّ" (٣).

فمن عمِلَ عملًا يَقْوَى عليه بَدَنُهُ في طولِ عُمرِه، في قُوَّتِه وضَعفِهِ، اسْتَقامَ سَيْرُهُ. ومَنْ حَمَلَ ما لا يُطيقُ؛ فإنَّه قد يَحدُثُ له مرَضٌ يمنعُهُ مِن العَمَل بالكليَّةِ، وقد يَسْأَمُ ويَضْجَرُ فيقطَعُ العَمَلَ، فيصيرُ كالمُنْبَتَ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرًا أبقَى (٤). وأمَّا صيامُ


(١) في ب، ط: "صابره".
(٢) في الأصول: "العمل"، وأثبت ما جاء في (ط).
(٣) روى ابن الأثير في "جامع الأصول" ١/ ٣١٨ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يُنجي أحدَكم عملُه، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه، فسدَّدوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيئًا من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبُه، وإن قلَّ، فاكْلَفوا من العمل ما تطيقون، فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا". ولم ينسبه، ومعناه ثابت في كتب الصحاح. وقد أخرجه البخاري رقم (٤٣) في الإيمان، باب أحب الدِّين إلى الله أدوَمُه و (١١٥١) في التهجد: باب ما يكره من التشديد في العبادة. و (٦٤٦٥) في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل؛ ومسلم رقم (٧٨٢) في الصلاة، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل، وأبو داود ١/ ٣١٥ في صلاة الليل، باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة. قال ابن الأثير في "جامع الأصول" ١/ ٣٠٦: "لا يَمَلُّ حتى تملّوا: المراد بهذا الحديث: أن الله لا يملُّ أبدًا، مللتم أو لم تَمَلُّوا، فجرى مجرى قولهم: لا أفعله حتى يشيب الغراب، ويبيضَّ القار. وقيل معناه: إن الله لا يطرحكم حتى تتركوا العمل له، وتزهدوا في الرغبة إليه، فسمَّى الفعلين مللًا، وكلاهما ليس بملل. وقيل معناه: إن الله لا يقطع عنكم فضله، حتى تملّوا سؤاله، فسمّى فعلَ الله مللًا، وليس بملل، على جهة الازدواج، كقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} وكقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وهذا شائع في العربية، وكثير في القرآن".
(٤) قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" ٣/ ١٩٩، وأوله: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإنَّ المنبتَّ … ". وهو مثل تجده في كتاب الأمثال لأبي عبيد ص ٣٦، ومجمع الأمثال للميداني ١/ ٧، والزمخشري ١/ ٤١٠، والبكري ص ١٣، واللسان (بتت). والمنبت: الرجل انقطع في سفره، وعطِبت راحلته.

<<  <   >  >>