للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأوقاتِ لا يُوجَدُ فيه ذاكرٌ له، ولهذا وَرَدَ في فَضْلِ الذكر في الأسواقِ (١) ما ورَدَ من الحديث المرفوع والآثارِ المَوْقُوفةِ، حتَّى قال أبو صالح: إن الله ليضحَكُ مِمَّن يذكُرُه في السُّوقِ، وسبَبُ ذلك أنه ذُكِرَ في مَوْطِنِ الغَفْلَةِ بينَ أهلِ الغَفْلَةِ.

وفي حديثِ أبي ذَرٍّ المرفوعِ: ثلاثةٌ يُحبُّهم الله؛ قومُ سارُوا لَيْلَتَهم (٢)، حتَّى إذا كان النَّومُ أحبَّ إليهم مِمَّا يُعدَلُ به فوضَعُوا رؤوسهم، فقامَ أحدُهم يتملَّقُنِي ويتلُو آياتِي. وقومٌ كانوا في سَريَّةٍ فانهزَمُوا، فتقدَّم أحدُهمِ فلقِيَ العدوِّ فصبَرَ حتَّى قُتِلَ. وذَكَرَ أيضًا قومًا جاءَهُم سائلٌ فسألَهم فلم يُعطُوه، فانْفرَدَ أَحدُهُم حتى أعطاهُ سرًّا (٣). فهؤلاء الثَّلاثةُ انفرَدُوا عن رفقتِهم بمعاملةِ اللهِ سِرًا بينَهم وبينَهُ، فأحبَّهمُ الله.

فكذلك مَن يَذكرُ الله في غَفْلَةِ النَّاسِ، أو مَنْ يَصُومُ في أيَّامِ غَفْلةِ النَّاسِ عن الصِّيامِ. وفي إحياءِ الوقتِ المَغْفُولِ عنه بالطَّاعَةِ فوائد؛

منها: أنه يكونُ أخفَى، وإخفاءُ النَّوافِل وَإسْرارُها أفضَلُ، لا سيَّما الصيامُ؛ فإنَّه سِرٌّ بينَ العَبْدِ ورَبِّه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياءُ. وقد صَامَ بعضُ السَّلفِ أربعين سنةً لا يَعلَمُ به أحدٌ، كان يخرُجُ من بيته إلى سوقِهِ ومعه رَغيفانِ، فيتصدَّقُ بهما ويصومُ، فيظنُّ أهلُه أنَّه أكلَهما، ويظُن أهلُ سوقِهِ أنَّه أكَلَ في بيتِهِ. وكانوا يَستحِبُّون لمن صَامَ أن يُظهرَ ما يخفي به صيامه. فعن ابن مسعودٍ أنه قال: "إذا أصبحتُم صيامًا فأصبِحُوا مدَّهِنين". وقال قتادة: يُستحبُّ للصائم أنْ يدَّهنَ حتَّى تذهَبَ عنه غُبْرةُ الصِّيامِ.


= إلينا حين ذهب ثلث الليل، أو بعده، فلا ندري: أشيء شغله في أهل، أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقُلَ على أمتي لصلَّيْتُ بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة. وأخرج أبو داود والنسائي رواية مسلم. وزاد البخاري: وكان ابن عمر لا يبالي: قدَّمها أو أخَّرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقلَّما كان يرقد قبلها.
(١) في آ: "السوق".
(٢) في آ، ع: "بليلتهم".
(٣) ذكر المؤلف - رحمه الله - الحديث بالمعنى. وقد رواه الترمذي رقم (٢٥٧١) في صفة الجنة، والنسائي ٥/ ٨٤ في الزكاة، باب ثواب من يعطي، من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن زيد بن ظبيان، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وهو حديث حسن. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. ورواه أيضًا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

<<  <   >  >>