للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أبو التيَّاحِ: أدركتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ، إذا صَامَ أحدُهم ادَّهَنَ ولبسَ أحسَنَ (١) ثيابِهِ.

ويُروَى أن عيسى بنَ مريم عليه السَّلامُ قال: إذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فليدهنْ لِحيتَهُ، وليمسَحْ شفتيهِ مِن دُهْنِهِ حتى ينظُرَ النَّاظِرُ إليه فيَرى أنَّه ليس بصائمٍ.

اشتهرَ بعضُ الصَّالِحين بكثرةِ الصِّيامِ، فكان يجتهِدُ في إظهار فطرِهِ للنَّاسِ حتَّى كان (٢) يقومُ يَومَ الجمعةِ والنَّاسُ مجتمِعُونَ في مسجدِ الجامعِ، فيأخُذُ إبريقًا، فيضَعُ بلبلتَه في فيهِ ويمصُّه ولا يزدرِدُ (٣) منه شيئًا، ويبقى ساعةً كذلك لِينظرَ النَّاسُ إليه فيظنُّونَ أنَّه يشرَبُ الماءَ، وما يدخل (٤) إلى حلقه منه شيءٌ. كم يَستر الصَّادِقُونَ أحوالَهم وريحُ الصِّدْقِ ينُمُّ عليهم.

ريحُ الصِّيام (٥) أطيبُ من ريحِ المِسْكِ تَستنشِقُه قلوبُ المؤمنينَ وإنْ خَفِيَ (٦)، وكلَّما طالَتْ عليه المُدَّةُ ازدَادَ قوَّة ريحه.

كَمْ أَكْتُم حُبَّكُم عَنِ الأغيارِ … والدَّمْعُ يُذيعُ في الهَوَى أسرارِي

كَمْ أستُرُكُمْ هتَكْتُمُ أَسْتَارِي … من يُخفِى في الهوَى لَهِيبَ النَّارِ

ما أَسَرَّ أحدٌ سَرِيرةً إلَّا ألبَسَهُ الله رداءَها عَلانيةً.

وَهَبنِي كَتَمْتُ السِّرَّ أوْ قُلْتُ غَيرَهُ … أتخفَى على أَهْلِ القُلُوب السَّرائرُ

أَبَى ذاكَ أن السِّرَّ في الوَجْهِ نَاطِقٌ … وأن ضَميرَ القَلْبِ في العَينِ ظاهِرُ

ومنها: أنه أَشَقُّ على النُّفوسِ؛ وأفضَلُ الأعمالِ أشقُّها على النُّفُوسِ، وسببُ ذلك أن النُّفوسَ تتأسَّى بما تُشاهِدُه (٧) من أحوالِ أبناءِ الجنسِ، فإذا كثُرَتْ يقظةُ النَّاسِ وطاعاتُهم كَثُرَ أهلُ الطَّاعةِ؛ لِكثرةِ المقتدِينَ بهم، فسَهُلَتِ الطَّاعاتُ. وإذا كَثُرَتِ الغَفْلاتُ وأهلُها تأسَّى بهم عُمومُ النَّاسِ، فيَشُقُّ على نُفوسِ المتيقظينَ


(١) في ب، ش، ط: "صالح ثيابه".
(٢) لفظة "كان" لم ترد في آ، ع.
(٣) في ش: "ولا ينزل منه شيئًا".
(٤) في ب، ش، ط: "وما دخل".
(٥) في آ، ع: "الصائم".
(٦) في آ، ع: "أخفِي".
(٧) في آ، ع: "يشاهد".

<<  <   >  >>