للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طاعاتُهم؛ لقلَّةِ مَن يَقْتَدُونَ بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "للعاملِ منهم أَجْرُ خمسينَ منكم، أنَّكُم تجِدُون على الخيرِ أعوانًا ولا يَجِدُون" (١). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بَدَأ، فَطُوَبى لِلغُرباءِ" (٢). وفي رواية: "قيل: ومَنِ الغُرباءُ؟ قال: "الذينَ يَصْلُحُونَ إذا فَسَدَ النَّاسُ" (٣).

وفي صحيح مسلم (٤) من حديثِ مَعْقِلِ بن يَسارٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "العِبَادَةُ في الهَرْجِ كالهجرةِ إليَّ". وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ (٥)، ولفظه "العِبَادَةُ في الفِتْنَةِ كالهِجْرَةِ إليَّ". وسَببُ ذلك أن الناسَ في زمنِ الفِتنِ يتبعونَ أهواءَهُم ولا يَرجِعُونَ إلى دينٍ، فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرَدَ مِنْ بينهم مَن يتمسَّكُ بدِينِه وَيعبُدُ ربَّهُ وَيتبَعُ مراضيه (٦)، ويجتنِبُ مَسَاخِطَهُ، كان بمنزلةِ مَن هاجَرَ من بين أهلِ الجاهليةِ إلى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا بهِ، مُتبِعًا لأوامِرِه، مُجْتنبًا لِنواهِيهِ.

ومنها: أن المنفرِدَ بالطَّاعة بين أهلِ المعاصِي والغَفْلةِ قد يُدْفَعُ به البَلاءُ عَنِ الناسِ كُلِّهم (٧)، فكأنه يحميهِم ويُدافعُ عنهم. وفي حديثِ ابن عُمَرَ الذي رَويناه في "جزء ابن عَرَفة" (٨) مرفوعًا: "ذاكِرُ اللهِ في الغافِلينَ كالذي يُقاتِلُ عَن الفارّينَ، وذاكِرُ الله في الغافلينَ كالشَّجرةِ الخضراء في وسَطِ الشَّجرِ الذي تحاتَّ (٩) وَرَقُهُ مِنَ


(١) أخرج شطره الأول الترمذي رقم (٣٠٦٠) في التفسير، وأبو داود رقم (٤٣٤١) في الملاحم.
(٢) أخرجه مسلم رقم (١٤٥) في الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الترمذي رقم (٢٦٣١) في الإيمان، باب رقم (١٣) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقال: حديث حسن غريب صحيح. ومعنى الحديث: أن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحق أهله النقص والاختلاف، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضًا كما بدأ. (انظر شرح مسلم للنووي). وللمؤلف - رحمه الله - رسالة قيمة في شرح هذا الحديث باسم "كشف الكربة بوصف حال أهل الغربة"، وهو مطبوع في القاهرة بتحقيق أحمد الشرباصي.
(٣) خرَّج هذه الرواية أبو بكر الآجري، كما قال ابن رجب في كتابه "كشف الكربة" ص ٦٣ - ٧٢، وذكر روايات أخرى.
(٤) رقم (٢٩٤٨) في الفتن، باب فضل العبادة في الهرج، والترمذى رقم (٢٢٠٢) في الفتن، باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه. والهَرْج: الفتنة في آخر الزمان، وشدَّة القتل وكثرته، والاختلاط. (اللسان: هرج).
(٥) مسند أحمد ٥/ ٢٧.
(٦) في آ: "مرضاته".
(٧) لفظ "كلهم" لم يرد في آ، ح.
(٨) هو الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي البغدادي، أبو علي، توفي سنة ٢٥٧ هـ. ومن الكتاب نسخة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، رواية إسماعيل بن محمد الصفار. (مجاميع ٢٢).
(٩) تحاتَّ ورقُه: أي تناثر.

<<  <   >  >>