للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي "الموطأ" (١) أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان بالعَرْج يصُبُّ الماءَ على رأسِهِ وهو صائمٌ مِنَ العَطَش، أو من الحَرِّ. فإذا اشتدَّ توقانُ النَّفس إلى ما تشتهيه مع قدرتِها عليه، ثم تركَتْهُ للهِ عزَّ وجلَّ في موضع لا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الله، كانَ ذلك دليلًا على صِحَّةِ الإيمانِ؛ فإن الصَّائمَ يعلَمُ أن له ربًّا يَطَّلِعُ عليه في خلوتِه، وقد حرَّمَ عليه أن يتناولَ شهواتِهِ المجبولِ على الميلِ إليها في الخلوةِ، فأطاعَ ربَّه، وامْتَثَلَ أمرَهُ، واجْتَنَبَ نهيَهُ خوفًا من عقابه، ورَغبةً في ثوابِهِ، فشكَرَ الله تعالَى له ذلك، واخْتَصَّ لنفسِهِ عملَهُ هذا مِن بين سائرِ أعمالِهِ؛ ولهذا قال بعد ذلك: إنَّه إنَّما (٢) ترَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشَرَابَهُ مِن أَجْلِي. قال بعض السَّلَف: طُوبَى لمن تَرَكَ شهوةً حاضِرَةً لموعدِ غيبٍ لم يَرَهُ.

لمَّا عَلِمَ المؤمنُ الصَّائمُ أن رِضَا مَولاهُ في ترك شهواتِهِ، قدَّمَ رِضَا مولاهُ على هواهُ؛ فصارَتْ لَذَّتُه في تَرْكِ شهوتِهِ للهِ؛ لإيمانِهِ باطلاعِ الله عليه (٣). وثوابُهُ وعقابُهُ أعظَمُ مِن لذَّتِهِ في تناولها في الخَلْوَةِ؛ إيثارًا لِرضا رَبِّه على هَوَى نفسِه، بل المؤمنُ يكرَهُ ذلك في خلوِتِهِ أشدَّ مِن كراهتِهِ لألمِ الضَّرْبِ.

ولهذا أكثر المؤمنين لو ضُرِبَ على أن يُفطِرَ في شهرِ رَمَضَانَ لغيرِ عُذْرٍ لم يفعَلْ؛ لعلمه بكراهةِ (٤) اللهِ لفطرهِ في هذا الشهر، وهذا من علاماتِ الإيمانِ أن يكرَهَ المؤمنُ ما يلائمُهُ مِنْ شهواتِهِ إذا عَلِمَ أن الله يكرههُ، فتصيرُ لَذَّتُه فيما يُرضي مَولاهُ وإنْ كان مخالفًا لِهواهُ، ويكونُ ألمُهُ فيما يَكرهُهُ مولاهُ، وإن كان موافقًا لِهواهُ، وإذا كانَ هذا فيما حُرِّمَ لِعَارِضِ الصَّوم مِنَ الطَّعامِ والشراب ومباشرةِ النساءِ، فينبغي أنْ يتأكَّدَ ذلك فيما حُرِّمَ على الإطلاقِ، كالزِّنا، وشُرْب الخمَر، وأخذِ الأموالِ أو الأعراضِ (٥) بغيرِ حَقٍّ، وسَفْكِ الدِّماء المحرَّمَةِ؛ فإنَّ هذَا يُسْخِطُ الله على كلِّ حال وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فإذا كَمُلَ إيمان المؤمنِ كَرِهَ ذلكَ كُلَّه أعظَمَ مِن كراهتِهِ للقتلِ والضَّرْبِ.


(١) ١/ ٢٩٤ في الصيام: باب ما جاء في الصيام في السفر؛ وأبو داود رقم (٢٣٦٥) في الصوم: باب الصائم يصب عليه الماء من العطش، وإسناده صحيح. والعَرْج: موضع بين مكة والمدينة.
(٢) لفظ "إنما" لم يرد في آ، ش، ع.
(٣) لفظ "عليه" زيادة من نسخة (آ).
(٤) في ب، ط: "الكراهة".
(٥) في آ: "والأعراض".

<<  <   >  >>