للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا جَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من علاماتِ وُجودِ حَلَاوةِ الإيمانِ: أَنْ يَكْرَهَ أن يَرجِعَ إلى الكُفْرِ بعدَ أنْ (١) أنقذَهُ الله، كما يَكرَهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ (٢).

وقال يوسفُ عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (٣).

سئل ذو النون المصري (٤): مَتَى أُحِبُّ رَبِّي؟ قال: إذا كانَ ما يكرَهُهُ أمَرَّ عندَكَ مِنَ الصَّبْرِ. وقال غيرُه: ليسَ مِن أعلام المحبَّةِ أن تحبَّ ما يكرهُهُ حبيبُكَ. وكثيرٌ مِنَ النَّاس يَمشي على العَوَائدِ دونَ ما يوجبُهُ الإيمانُ ويقتضيه، فلهذا كثيرٌ منهم لو ضُرِبَ ما أفَطرَ في رَمَضَانَ لغيرِ عُذْرٍ. ومِن جُهَّالِهم مَنْ لا يُفطِرُ لِعُذْرٍ ولو تَضَرَّرَ بالصَّوْمِ، مع أن الله يُحِبُّ منه أن يَقبَلَ رُخصَتَهُ، جَرْيًا منه على العادةِ، وقد اعْتَادَ مع ذلك ما حرَّم (٥) اللهُ مِن الزِّنا وشرب الخمرِ وأخذِ الأموالِ والأعراضِ أو الدِّماءِ بغيرِ حقٍّ، فهذا يَجْرِي على عوائِدِه في ذلَك كُلِّه لا على مُقْتَضَى الإيمانِ، ومَنْ عَمِلَ بمقتَضَى الإيمانِ صَارَتْ لَذَّتُه في مُصَابَرَةِ نفسِهِ عمَّا تَميلُ نفسُه إليه إذا كان فيه سَخَطُ اللهِ، ورُبَّما يَرْتَقِي إلى أن يَكْرَهَ جميعَ ما يكرهُهُ الله منهُ، وينفُرُ منه وإنْ كان ملائمًا للنفوسِ، كما قيل:

إن كان رِضاكُمُ في سَهَرِي … فَسَلامُ اللهِ على وَسَنِي (٦)

[وقال آخر (٧):

* فما لِجُرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ *] (٨)


(١) في آ: "بعد إذ".
(٢) من حديث رواه المصنف بالمعنى؛ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَد بهنَّ طعم الإيمان: من كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سُواهما، ومن أحبَّ عبدًا لا يُحبُّه إلَّا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار". أخرجه البخاري ١/ ٦٠ - ٦٢ في الإيمان: باب حلاوة الإيمان، وباب من كره أن يعود في الكفر، وفي الأدب: باب الحب في الله، وفي الإكراه: باب من اختار القتل والضرب والهوان على الكفر. وأخرجه مسلم رقم (٤٣) في الإيمان: باب بيان خصال الإيمان. والترمذي رقم (٢٩٢٦) في الإيمان، باب رقم (١٠). والنسائي ٨/ ٩٦ في الإيمان: باب حلاوة الإيمان. وابن ماجه رقم (٤٠٣٣) في الفتن: باب الصبر على البلاء.
(٣) سورة يوسف الآية ٣٣.
(٤) لفظ "المصري" لم يرد في آ، ش، ع. وهو ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، أصله من النوبة، أحد الزهاد العبَّاد المشهورين، كان له فصاحة وحكمة وشعر، توفي سنة ٢٤٥ هـ.
(٥) في آ، ش: "ما حرَّمه".
(٦) الوَسَن: النعاس.
(٧) عجز بيت للمتنبي في ديوانه ٢/ ٢٦٣، وتمامه:
إن كان سرَّكُمُ ما قال حاسدُنا … فما لِجُرْحٍ إذا أرضاكمُ ألَمُ
(٨) ما بين قوسين زيادة لم ترد في ب، ط.

<<  <   >  >>