للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها: تَخلِّي القلب للفكرِ والذِّكْرِ؛ فإنَّ تناولَ هذه الشهوات قد تُقسِّي القَلْبَ وتُعمِيهِ، وتَحُولُ بينَ العبدَ وبينَ الذِّكْرِ والفِكْرِ، وتستدعِي الغَفْلَةَ. وخُلوُّ الباطِنِ مِن الطعامِ والشرابِ يُنوَّرُ القلبَ ويُوجبُ رِقَّتَه ويُزيلُ قَسْوَتَه ويُخليه للذكرِ والفكرِ.

ومنها: أنَّ الغنِيَّ يَعرفُ قَدْرَ نعمةِ اللهِ عليه بإقْدارِهِ له على ما منعه كثيرًا من الفقراءِ من فُضُولِ الطَّعام والشراب والنِّكاحِ؛ فإنَّه بامتناعِهِ من ذلك في وقتٍ مخصوص وحصُولِ المشقَّةِ له بذلَك، يتذكَّرُ بهِ مَنْ مُنِعَ ذلك (١) على الإطلاق، فيوجبُ له ذلك شُكرَ نِعمةِ اللهِ عليه بالغِنَى، وَيدعُوه إلى رحمةِ أخيه المحتاج ومُواساتِه بما يُمكن مِن ذلك.

ومنها: أنَّ الصِّيامَ يُضيِّقُ مَجارِيَ الدَّم التي هي مَجاري الشيطانِ مِن ابن آدمَ؛ فإنَّ الشيطانَ يَجري من ابن آدمَ مجرَى الدَّم، فتسكنُ بالصِّيامِ وَسَاوسُ الشَّيطانِ، وتنكسِرُ سَوْرَةُ (٢) الشهوةِ والغَضَبِ، ولهذا جَعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّوْمَ وِجَاءً (٣)؛ لقطْعِهِ عن شهوةِ النِّكاحِ.

واعْلَمْ أنَّه لا يَتِمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بترْكِ هذه الشهواتِ المباحةِ في غيرِ حالةِ الصِّيام إلا بعدَ التقرُّب إليه بتركِ ما حرَّمه (٤) الله في كُلِّ حالٍ؛ مِن الكذب والظلمِ والعدوانِ على الناس في دمائهم وأموالِهم وأعراضِهم، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ للهِ حاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابَهُ". خرَّجَه البخاريُّ (٥). وفي حديث آخرَ: "ليسَ الصِّيامُ مِنَ الطَّعامِ والشرابِ، إنَّما الصِّيام من


(١) في ب، ع، ط: "منِ منع من ذلك".
(٢) في آ: "ثورة". وثورة الغضب: وُثُوبه.
(٣) وَجَأ الفحلَ وجاءً: دقَّ عروق خُصيتيْه بين حجرين ولم يُخْرجهما، أو رضَّهما حتى تنفضخا، فيكون شبيهًا بالخِصاء. وأراد بالحديث: أن الصوم يقطع النِّكاح كما يقطعه الوِجاء، أو أنه يقطع شهوِة الجماع. وقد أخرجه البخاري ٤/ ١١٩ (١٩٠٥) في الصوم: باب الصوم لمن خَاف على نفسه العُزَبَة، وفي النكاح: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من لم يستطع الباءة فليصم. ورواه مسلم رقم (١٤٠٠) في النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم.
(٤) في ب، ع، ط: "ما حرم الله".
(٥) أخرجه البخاري ٤/ ١١٦، ١١٧ (١٩٠٣) في الصوم: باب من لم يدع قول الزُّور والعمل به في الصوم، وفي الأدب: باب قول الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}. وأخرجه أبو داود رقم (٢٣٦٢) في الصوم: باب الغيبة للصائم؛ والترمذي رقم (٧٠٧) في الصوم: باب ما جاء في التشديد في الغيبة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>