للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يُجهِدُ المالَ والنفسَ والبَدَنَ، كما قال أبو الشَّعثاء (١): نظرْتُ في أعمال البِرِّ، فإِذا الصَّلاةُ تجهِدُ البَدَنَ دونَ المالِ، والصِّيامُ كذلك، والحجُّ يجهِدُهما، فرأيتُه أفضَلَ.

ورَوَى عبد الرزَّاق (٢) بإِسنادِهِ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رجلًا سأله عن الحجِّ، قال: إِنَّ الحاجَّ يشفَعُ في أربعمائة بَيْتٍ من قومه، ويبارك في أربعين من أُمهاتِ البَعيرِ الذي حَمَلَه، ويخرُجُ مِن ذنوِبه كيومِ وَلَدَتْه أمُّه (٣). فقال له رجل: يا أبا موسى! إِنِّي كنْتُ أعالِجُ (٤) الحجَّ، وقد كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، فهل مِن شيءٍ يَعدِلُ الحَجَّ؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتِقَ سبعين رقبةً مؤمنةً من ولدِ إِسماعيلَ؟ فأمَّا الحلُّ والرَّحيل فلا أجِدُ له عِدلًا، أو قال: مِثلًا. وبإِسناده (٥) عن طاوس أنَّه سُئل: هل الحجُّ بعد الفريضة أفضَلُ أم الصَّدَقَةُ؟ قال: فأين الحلُّ والرَّحيلُ، والسَّهَرُ والنَّصَبُ، والطَّوافُ بالبيتِ، والصَّلاةُ عندَه، والوقوفُ بعَرَفَةَ، وجَمْعُ ورميُ الجمار؟ كأنه يقولُ: الحجُّ أفضَلُ. وقد اختلَفَ العلماءُ في تفضيل الحَجِّ تطوُّعًا على الصدقة.

فمنهم: من رَجَّحَ الحجَّ، كما قاله طاوس وأبو الشعثاءِ، وقاله الحَسَنُ أيضًا. ومنهم: مَن رجَّحَ الصَّدَقة، وهو قولُ النَّخعي. ومنهم: من قال: إِنَّ كان ثَمَّ رَحِمٌ محتاجَةٌ أو زمنُ مجاعةٍ، فالصَّدَقَةُ أفضَلُ، وإِلَّا فالحَجُّ؛ وهو نصُّ أحمدَ. ورُوي عن الحسن معناه، وأنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ والتنفيس عن المكروب أفضَلُ من التطوُّع بالحَجِّ.

وفي كتاب عبد الرزَّاق (٦) بإِسنادٍ ضعيفٍ: عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن رجلٍ حَجَّ فأكثَر، أيجعَلُ نفقَتَه في صلةٍ أو عِتْقٍ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طوافُ سبع لا لَغْوَ فيه يعدِلُ رقَبةً". وهذا يدُلُّ على تفضيل الحَجِّ. واستدَلَّ مَن رأى ذلك أيضًا بأنَّ النَّفَقة في الحجِّ أفضَلُ من النفقة في سبيل الله.


(١) هو جابر بن زَيْد الأزدي، عالم أهل البصرة في زمانه، يعد مع الحسن البصري وابن سيرين، وهو من كبار تلامذة ابن عباس. توفي سنة ٩٣ هـ. والخبر في "صفة الصفوة" ٣/ ٢٣٧.
(٢) المصنف (ج ٥) في الحج، برقم (٨٨٠٧).
(٣) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٣/ ٢١١ عن أبي موسى رفعه إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "رواه البزار، وفيه من لم يسم".
(٤) أي أزاول وأمارس الحج.
(٥) المصنف (ج ٥)، في الحج، برقم (٨٨٢٢).
(٦) المصنف ٨/ ١٥ برقم (٨٨٣٣)، وعنه في كنز العمال رقم (١١٩٩٧).

<<  <   >  >>