للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بذلك التعب، كما أريح الصائمون لله في شهر رمضانَ بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر. ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمن في الدنيا؛ فإنَّ الدُّنيا كلَّها أيامُ سَفَرٍ كأيَّام الحجِّ، وهي زمانُ إحرام المؤمن عمَّا حرَّم الله عليه من الشهوات، فمن صَبَرَ في مدَّة سفرِه على إحرامه وكفَّ عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره ووَصَل إلى مِنَى المُنى، فقد قضَى تَفَثَه ووفَّى نَذْره، فصارت أيَّامُه كلُّها كأيَّام مِنىً، أيَّامُ أَكْلٍ وشُربٍ وذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وصار في ضيافة اللهِ عزَّ وجلَّ في جواره أبدَ الأبد، ولهذا يقال لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (١) {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (٢). وقد قيل: إنَّها نزلت في الصُّوَّام في الدنيا.

وقد صُمْتُ عن لذات دهريَ كُلّها … وَيَوْمَ لقاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيامِي

قال بعضُ السَّلف: صُم (٣) الدنيا وليكن فطرك الموت. [غيره] (٤):

فصُمْ يومَكَ الأدنى لَعَلَّكَ في غَدٍ … تفوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاسُ صُوَّمُ

من صام اليومَ عن شهواته أفطَرَ عليها غدًا بعد وفاته، ومن تعجَّل ما حُرِّم عليه من لذَّاته عُوقِب بحرمان نصيبهِ من الجنة وفواتِهِ؛ شاهدُ ذلك مَن شرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لم يشربْها في الآخرة، ومن لبس الحرير لم يلْبَسْه في الآخرة.

أنتَ في دار شَتاتٍ … فتأهَّبْ لشَتاتِكْ

واجْعَلِ الدُّنيا كيومٍ … صُمْتَه عن شَهواتِك

ولْيكُن فِطْرُك عندَ اللَّـ … ـهِ في يَوْمِ وفاتِك

قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (٥).

الجنَّة ضيافة اللهِ أعدَّها لعباده المؤمنين نُزُلًا، فيها ما لا عَيْنٌ رأتْ ولا أذنً سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ. وبُعِثَ (٦) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إليها بالإِيمان


(١) سورة الطور الآية ١٩.
(٢) سورة الحاقة الآية ٢٤.
(٣) في ط: "صم عن الدنيا".
(٤) زيادة من (آ).
(٥) سورة يونس الآية ٢٥.
(٦) في ب، ط: "فبُعث".

<<  <   >  >>