للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كُلُّ ما في الدنيا يذكِّر بالآخرة؛ فمواسِمُها وأعيادُها وأَفراحُها تذكِّر بمواسم الآخرة وأَعيادِها وأفراحِها. صنع عبدُ الواحد بن زيد طعامًا لإخوانه، فقام عُتْبَةُ الغُلام على رؤوس الجماعة يخدُمُهم وهو صائم، فجعل عبدُ الواحد ينظرُ إليه ويُسَارِقه النظر ودُموعُ عُتْبَةَ (١) تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائِه (٢) حينئذ، فقال: ذكرْتُ موائدَ الجنَّة والولدانُ قائمون على رؤُوسهم؛ فصعق عبدُ الواحد. أَبْدَانُ العارفينَ في الدنيا وقلوبُهم في الآخرة.

جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أن الرُّوحَ عندَكُمُ … فالجِسْمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ

أعيادُ الناس تنقضِي، فأمَّا أعيادُ العارفين فدائمة. قال الحسن: كُلُّ يومٍ لا تعصِي الله فيه فهو لكَ عيدٌ. جاء بعضُهم إلى بعض العارفين فسلَّم عليه، وقال له: أريدُ أن أكلمك، قال (٣): اليوم لنا عيد، فتركه، ثم جاءه يومًا آخر، فقال له مثل ذلك، ثم جاء (٤) يومًا آخر، فقال له مثل ذلك. فقال له: ما أكثَرَ أعيادَك! قال: يا بطَّال (٥)! أما علِمْتَ أنَّ كُلَّ يومٍ لا نَعصِي الله فيه فهو لنا عيد. أوقات العارِفين كلُّها فرحٌ وسرورٌ بمناجاةِ مولاهم وذكرِه، فهي أعيادٌ. وكان الشِّبْلِي ينشِدُ:

إذا ما كنْتَ لي عِيدًا … فما أصنَعُ بالعِيدِ

جَرَى حُبُّكَ في قلبي … كجرْي الماء في العُودِ

وأنشد أيضًا:

عِيدِي مُقيمٌ وَعِيدُ النَّاسِ منصَرفُ … والْقَلْبُ منِّي عن اللَّذات مُنحرِفُ

وَلي قرينان ما لي منهما خلَفٌ … طُولُ الحَنين وعَيْنٌ دَمْعُها يَكِفُ

* * *


(١) في آ: "عينيه".
(٢) في ب، ط: "عن ذلك".
(٣) في ب، ط: "فقال".
(٤) لفظ "جاء" لم يرد في آ، ش، ع.
(٥) رجل بطَّال: أي ذو باطل.

<<  <   >  >>