للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي حديث زيد بن ثابتٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من كانَت الدُّنيا همَّه، فرَّقَ اللهُ عليه أمرَه، وجعَلَ فَقْرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدَّنيا إلَّا ما كُتِبَ لَهُ" (١). فمن كان فقرُه بين عينيه لم يَزَلْ خائفًا من الفقر، لا يستغني قلبُه بشيءٍ، ولا يشبَعُ من الدنيا؛ فإنَّ الغِنَى غِنَى القلب، والفقر فقر النفس. وفي حديث خرَّجه "الطبراني" (٢) مرفوعًا: "الغِنَى في القَلْب، والفَقْرُ في القَلْب، ومَن كان الغِنَى في قلبه فلا يضرّه ما لقِي من الدُّنيا، ومَن كان الفقرُ في قلبه فلا يغنيه ما أُكثر له منها، وإنما يضُرُّ نفسه [شحُّها] ". وعن عيسى عليه السلام، قال: مَثَلُ طالبِ الدنيا كشارب البحر، كلما زاد شرْبًا منه زاد عطشًا حتى يقتلَه. قال يحيى بن معاذ: مَن كان غِناهُ في قلبه لم يزل غنيًا، ومَن كان غناه في كسْبه لم يزل فقيرًا، ومن قَصَدَ المخلوقين لحوائجه (٣) لم يزلْ محرومًا، ويشهدُ لذلك كلِّه الحديثُ الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لابن آدَمَ وادِيان مِن ذَهَبٍ لابْتَغَى لهما ثالثًا، ولا يملأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، وَيتُوبُ اللّهُ على مَن تاب" (٤). لو فكَّر الطامع في عاقبة الدنيا لقنِع، ولو تذكَّر الجائع إلى فضول مآلها لشبع.

هَب انَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الأَرْضَ طُرًّا … وَدَانَ لَكَ العِبادُ فكان ماذا

أليس إذًا مَصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرٍ (٥) … ويحثي التُّرْبَ هذا ثمَّ هذا

وقد ضرب الله تعالى في كتابه مثلَ الدنيا وخُضرتها ونضرتها وبهجتها وسُرعة تقلُّبها وزوالها، وجعل مثَلها كمثل نباتِ الأرض النابت من (٦) مطر السماء في تقلُّب أحواله ومآله.


(١) قطعة من حديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" ٥/ ١٨٣ وفيه: "ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته .. ". وذكره الهيثمي بنحوه في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٢٤٧ وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا". وبنحوه رواه الترمذي رقم (٢٤٦٥) في صفة القيامة، من حديث أنس بن مالك.
(٢) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ١٠/ ٢٣٧ عن أبي ذر، مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزيادة منه، وقال: "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه".
(٣) في آ، ش: "بحوائجه".
(٤) أخرجه البخاري ١١/ ٢٥٣ في الرقاق: باب ما يتقى من فتنة المال، ومسلم رقم (١٠٤٨) في الرقاق: باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٥) في ع: "أليس مصير روحك جوف ترب"، وفي هامشها: "جسمك" وفي آ، ب: "جوف ترب". والبيت بتمامه لم يرد في نسخة (ش).
(٦) في آ، ش: "عن مطر السماء".

<<  <   >  >>