للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المال بحقِّه ما يقوِّيه على طاعة الله، ويستعين به عليها، كان أخذُه طاعةً، ونفقتُه طاعةً. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّكَ لن تُنْفِقَ نفقةً تبتَغي بها وَجْهَ الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى اللقمةُ ترفَعُها إلى فِي امرأتِك" (١). وفي حديث آخر: "ما أطعمْتَ نفسَكَ فهو لَكَ صَدَقَةٌ، وما أطعمْتَ أهلَكَ فهو لك صَدَقة، وما أطعمْتَ ولَدَكَ فهو لك صَدَقَة، وما أطعمْتَ خادِمَكَ فهو لك صَدَقة" (٢). فما أخِذَ من الدُّنيا بنيَّة التقوِّي على طلب الآخرة فهو داخِلٌ في قسم إرادة الآخرة والسَّعي لها، لا في إرادة الدنيا والسعي لها؛ قال الحسن: ليس من حُبِّ الدنيا طلبُكَ ما يُصلحك فيها، ومن زُهدك فيها تركُ الحاجة يسدُّها عنك تَرْكها. ومَن أحبَّ الدنيا وسرَّته ذهب خوفُ الآخرة من قلبه.

وقال سعيد بن جُبَيرٍ (٣): متاع الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلْهِك فليس بمتاع (٤) الغرور، ولكنَّه بلاغٌ إلى ما هو خير منه. وقال بعضُ العارفين: كُلُّ ما أصبْتَ من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكُلُّ ما أصبْتَ منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا. وقال أبو سليمان: الدنيا حجابٌ عن الله لأعدائه، ومطِيَّةٌ موصِلَةٌ إليه لأوليائه، فسبحان مَن جَعَلَ شيئًا واحدًا سببًا للاتصال به والانقطاع عنه.

والقسم الثاني: يشبه حالُه حالَ البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع، فيقتلها حَبَطًا أو يُلِمُّ، وهو من يأخذ المالَ بغير حقِّه، فيأخذه من الوجوه المحرمة، فلا يقنع منه بقليل ولا بكثير، ولا تشبع نفسُه منه، ولهذا قال: "وكان كالَّذي يأكُلُ ولا يشبَعُ". وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - "يتعوَّذ من نفسٍ لا تشبع" (٥).


(١) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (١٢٩٥) في الجنائز: باب رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، وفي الإيمان، وفي الوصايا وغيرها، ومسلم رقم (١٦٢٨) في الوصية: باب الوصية بالثلث، والموطأ ٢/ ٧٦٣، والترمذي رقم (٩٧٥)، وأبو داود رقم (٢٨٦٤)، والنسائي ٦/ ٢٤١.
(٢) مسند أحمد ٤/ ١٣١ و ١٣٢ من حديث المقام بن معد يكرب. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٣/ ١١٩ وقال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات". وقال المنذري في "التركيب" ٣/ ٦٢: "رواه أحمد بإسناد جيد".
(٣) سعيد بن جُبَير الأسدي الكوفي، أبو عبد الله، من التابعين، كان أعلمهم على الإطلاق. وهو حبشي الأصل من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد، أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، قتله الحجاج بواسط سنة ٩٥ هـ، لخروجه مع محمد بن الأشعث.
(٤) في ب، ط: "متاع".
(٥) من حديث أخرجه مسلم وغيره.

<<  <   >  >>