للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما المرءُ إلَّا كالنَّبَاتِ وَزَهْرُه … يَعُودُ رُفاتًا بَعْدَ ما هُوَ سَاطِعُ

فينتقل ابنُ آدم من الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السَّقَم، ومن الوجود إلى العدم (١)، كما قيل:

وما حالاتُنا إلَّا ثلاثٌ … شَبَابٌ ثُمَّ شَيْبٌ ثمَّ مَوْتُ

وآخرُ (٢) ما يُسَمَّى المرءُ شيخًا … ويتلُوهُ مِنَ الأسْماءِ مَيْتُ

مدة الشباب قصيرة كمدّة زَهْر الربيع وبهجته ونَضَارته، فإذا يَبِسَ وأبْيضَّ فقد آن ارتحالُه، كما أن الزرْع إذا ابْيضَّ فقد آن حصادُهُ. وأَجَلُّ زهور الربيع الوردُ، ومتى كثُر فيه البياضُ فقد قرُبَ زمنُ انتقالِه. قال وهيب بن الوَرْد: إنَّ لله مَلَكًا يُنادِي في السَّماء كُلَّ يومٍ: أبناءَ الخمسين، زرْعٌ دَنَا حَصَادُه. وفي حديث مرفوعٍ: "إنَّ لِكُلِّ شيءٍ حصادًا، وحصادُ أمَّتي ما بينَ السِّتِّين إلى السَّبعين" (٣).

قَدْ يَبْلُغُ الزَّرْعُ مُنْتَهاهُ … لا بُدَّ للزَّرْعِ مِن حَصَادِ

وقد يدرك الزرعَ آفةٌ قبلَ بلوغ حصادِه فيهلِك، كما أشير إليه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (٤)، الآية. قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معْشرَ الشيوخ! ما يُنتظَرُ بالزَّرع إذا ابيضَّ؟ قالوا: الحصادَ، فنظر إلى الشباب، فقال: يا معشرَ الشباب! إنَّ الزَّرْع قد تدركه الآفةُ قبلَ أن يُسْتَحْصَدَ.

وقال بعضُهم: أكثَرُ مَن يموتُ الشبابُ، وآيةُ ذلك أن الشيوخ في الناس قليل.

أيا ابْنَ آدَمَ لا تغرُرْكَ عافيةٌ … عليكَ ضافيةٌ (٥) فالعمر معدودُ

ما أنْتَ إلَّا كزرْعٍ عندَ خُضرتِه … بكُلِّ شيءٍ مِن الآفاتِ مَقْصُودُ

فإنْ سَلِمْتَ مِن الآفاتِ أجمعِها … فأنْتَ عِنْدَ كمالِ الأَمْر مَحْصُودُ


(١) بعده في ش: "ثم إذا شاء الذي أنشاه أعاده كما بدأه".
(٢) في آ، ع: "وآخرها يُسمَّى".
(٣) رواه ابن عساكر، عن أنس، وله شواهد في معناه. انظر "كنز العمال" ١٥/ ٦٧.
(٤) سورة يونس الآية ٢٤.
(٥) في آ: "صائنة"، وفوقها: "شاملة".

<<  <   >  >>