للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كأنَّكَ لم تدفِنْ حَميمًا ولم تَكُنْ … لَهُ في سِياقِ المَوْتِ يومًا بحاضِرِ

رأى عمر بن عبد العزيز قومًا في جنازة قد (١) هربُوا من الشمس إلى الظِّلِّ، وتوقَّوا الغبارَ، فبكى، ثم أنشد:

مَنْ كانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جبْهَته … أو الغُبارُ يخافُ الشَّيْنَ (٢) والشَّعثَا

ويألفُ الظِّلَّ كي تَبْقَى (٣) بشاشتُهُ … فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جَدَثا (٤)

في ظِلِّ مُقْفِرةٍ غبْراءَ مُظْلِمَةٍ … يُطيلُ تحت الثرى في غَمِّها (٥) اللَّبثَا (٦)

تجهَّزِي بجَهازٍ تبلُغينَ بهِ … يا نفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لم تُخْلَقي عَبَثا

وممَّا يُضَاعَفُ ثوابُه في شدَّة الحَرِّ مِن الطَّاعات الصِّيامُ؛ لما فيه من ظمأ الهواجِر؛ ولهذا كان معاذ بن جَبَل يتأسَّف عند موته على ما يفوتُه من ظمأِ الهواجر، وكذلك غيرُه من السَّلف. ورُوي عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصّيف ويُفطِر في الشتاء.

ووصَّى عمر رضي الله عنه عند موته ابنَه عبدَ الله، فقال له: عليك بخصالِ الإيمان، وسمَّى أوَّلَها الصَّوم في شدَّة الحر في الصيف. قال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحَرِّ الشديد. قيل له: ما حمَلَها على ذلك؟ قال: كانت تبادِرُ الموتَ.

وكان مُجمِّع (٧) التيميُّ يصوم في الصيف حتى يسقُطَ.

كانت بعضُ الصَّالحات تتوخَّى أشدَّ الأيام حَرًّا فتصومُه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إنَّ السِّعر إذا رَخُصَ اشتراه كُلُّ أحدٍ؛ تشيرُ إلى أنها لا تؤثِرُ إلَّا العَمَلَ الذي لا يقدِرُ عليه إلَّا قليلٌ من الناس؛ لشدَّته عليهم. وهذا من عُلوَّ الهِمَّة. كان أبو موسى


(١) في ش، ع: "وقد هربوا".
(٢) الشَّيْن: العَيْب، وهو ضد الزَّيْن.
(٣) في ب، ط: "يبقي".
(٤) الجَدَث: القبر.
(٥) في آ: "عُمَّهِ"، وفي ش، ع: "غمه".
(٦) مصدر لبِثَ لَبْثًا، على غير قياس؛ لأن المصدر من فَعِلَ، بالكسر، قياسه التحريك إذا لم يتعدَّ، مثل تَعِبَ تَعَبًا. (اللسان: لبث).
(٧) هو مُجَمِّع بن يسار أبو حمزة التيمي. قال سفيان الثوري: ليس شيء من عمل أرجو أن يشوبه شيء كحبِّي مجمِّعًا التيمي. دعا مجمع ربَّه عزَّ وجلَّ أن يميته قبل الفتنة، فمات من ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد. (صفة الصفوة ٣/ ١٠٧).

<<  <   >  >>