للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأشعري في سفينة، فسمعَ هاتفًا يهتِف: يا أهلَ المركب، قفوا، يقولُها ثلاثًا، فقال أبو موسى: يا هذا! كيف نقِفُ؟ أما (١) ترى ما نحن فيه، كيف نستطيع وقوفًا؟ فقال الهاتفُ: ألا أخبركم بقضاءٍ قضاهُ الله على نفسِه؟ قال: بلَى، أخبِرنا، قال: فإنَّ الله قضى على نفسه أنَّه من عطَّش نفسَه لله في يومٍ حارٍ؛ كان حقًّا على الله أن يرويَه يومَ القيامة. فكان أبو موسى يتوخَّى ذلك اليومَ الحارَّ الشديدَ الحَرِّ، الذي يكاد الإنسان ينسلِخُ منه، فيصومُه. قال كعب: إنَّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إنِّي آليت على نفسي أنَّه مَن عطَّشَ نفسَه لي أن أرويَه يومَ القيامة. وقال غيرُه: مكتوبٌ في التوراة: طُوبَى لمن جَوَّع نفسَه ليوم الشبعِ الأكبر، طوبَى لمن عطَّش نفسَه ليوم الرِّيِّ الأكبر.

قال الحسن: تقولُ الحوراء لوليِّ الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنَّة تعاطيه الكأسَ في أنعَمِ عيشةٍ: أتدري أيّ يومٍ زوجنيك الله؟ أَنَّه نَظَر إليك في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بينَ الطرفين، وأنتَ في ظمأِ هاجِرةٍ (٢) مِن جُهدِ العطش، فباهَى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجتَه ولذَّته وطعامَه وشرابَه من أجلي؛ رغبةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنِّي قد غفرْتُ له؛ فغَفَرَ لك يومئذٍ وزوجنيك. لمَّا سار (٣) عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفَعَ إليه حوائجه فيأبَى، فلمَّا أكثَرَ عليه، قال: حاجتي أن ترُدَّ عليَّ مِن حَرِّ البصرة، لعَلَّ الصَّومَ أن يشتدَّ عليَّ شيئًا؛ فإنَّه يَخِفُّ عليَّ في بلادكم.

نزل الحَجَّاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابيًا فدعاه إلى الغداء معه، فقال له: دعاني مَنْ هو خيرٌ منك فأجبته. قال: ومَن هو؟ قال: اللهُ تعالى، دعاني إلى الصيام فصُمت. قال: في هذا الحَرِّ الشديد؟ قال: نعم، صُمت ليومٍ هو (٤) أشدُّ منه حَرًّا. قال: فأفطِر وصُمْ غدًا، قال: إن ضَمِنْتَ لي البقاء إلى غدٍ، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجلٍ لا تقدِرُ عليه. خرَجَ


(١) في ب، ط: "ألا ترى".
(٢) الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرّ.
(٣) في آ: "سُيِّر".
(٤) لفظ "هو" لم يرد في ب، ش، ط.

<<  <   >  >>