للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابنُ عمرَ في سفرٍ مَعَهُ أصحابُه، فوضعوا سُفْرةً لهم، فمرَّ بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكلَ معهم، قال: إنِّي صائم، فقال ابنُ عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حَرُّهُ وأنتَ بين هذه الشِّعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم!؟ فقال: أبادِرُ أيَّامي هذه الخالية. فعجِبَ منه ابنُ عمر، فقال له (١): هل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك ونطعمكَ من لحمها ما تفطِر عليه، ونعطيك ثمنَها؟ قال: إنها ليست لي، إنَّها لمولاي. قال: فما عسيتَ أن يقولَ لك مولاك إن قلْتَ: أكلَها الذئب. فمضَى الرَّاعي وهو رافعٌ أصبعَهُ إلى السَّماء، وهو يقول: فأين الله! فلم يَزَلْ ابنُ عمر يردد كلمتَه هذه. فلمَّا قدِمَ المدينة بعث إلى سيد الراعي، فاشترى منه الراعيَ والغنم، فأعتَقَ الراعيَ ووهَبَ له الغَنَمَ.

نزل رَوْح بن زِنْباعٍ (٢) منزلًا بين مكَّة والمدينة في حَرٍّ شديدٍ، فانقضَّ عليه راعٍ من جبلٍ، فقال له: يا راعي (٣)، هلُمَّ إلى الغداء، قال: إنِّي صائمٌ، قال: أفتصومُ في هذا الحَرِّ؟ قال: أفأدَعُ أيامي تذهَبُ باطلًا!؟ فقال روحٌ: لقد ضَنِنتَ بأيَّامِكَ يا راعي إذ جاد بها رَوْحُ بن زِنباعٍ.

كان ابنُ عمر يصوم تطوُّعًا فيُغشَى عليه فلا يفطِرُ.

وكان الإمام أحمد يصومُ حتى يكاد يُغمى عليه، فيمسَحُ على وجهه الماء. وسئل عمن يصومُ فيشتدُّ عليه الحَرُّ، قال: لا بأس أن يَبُلَّ ثوبًا يتبرَّدُ به، ويصبّ عليه الماء. "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْج يصُبُّ على رأسه الماء وهو صائمٌ". وكان أبو الدَّرداء يقولُ: صُوموا يومًا شديدًا حَرُّة لِحَرِّ يومِ النُّشورِ، وصَلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لِظُلمة القبور.

وفي "الصحيحين" (٤) عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، قال: "لقد رأيتُنا مع


(١) في ب، ط: "فقال له ابن عمر".
(٢) رَوْح بن زِنْباع بن رَوْح بن سلامة، أبو زرعة، أمير فلسطين، وسيد قومه، وكان شبه الوزير للخليفة عبد الملك. توفي سنة ٨٤ هـ. (سير أعلام النبلاء ٤/ ٢٥١).
(٣) في ب، ط: "يا راع".
(٤) أخرجه البخاري رقم (١٩٤٥) في الصوم: باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، ومسلم رقم (١١٢٢) في الصوم: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، وأبو داود رقم (٢٤٠٩) في الصوم: باب فيمن اختار الصيام في السفر، وابن ماجه رقم (١٦٦٣) في الصيام: باب ما جاء في الصوم في السفر.

<<  <   >  >>