للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قيامُ (١) ليلِ الشتاء يعدِلُ صيامَ نهارِ الصيف، ولهذا بكى معاذ رضي الله عنه عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأِ الهواجرِ، وقيام ليلِ الشتاء (٢)، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذكر. وقال معْضَد (٣): لولا ثَلاث: ظمأُ الهواجِرِ، وقيامُ ليلِ الشتاء، ولذاذَةُ التهجُّد بكتاب الله، ما باليتُ أن أكونَ يَعْسُوبًا (٤). القيامُ في ليل الشتاء يشقُّ على النفوس من وجهين:

أحدُهما: من جهة تألُّم النفس بالقيام من الفراش في شدَّة البرد؛ قال داود بن رُشَيد (٥): قام بعضُ إخواني إلى وِرْده بالليل في ليلة شديدة البرد، فكان عليه خُلْقان، فضربَه البَرْدُ فبكَى، فهتف به هاتِفٌ: أقمناك وأنمناهم، وتبكي علينا! خرَّجه أبو نُعيم (٦).

والثاني: بما يحصُلُ بإسباغ الوضوء في شدَّة البَرْد من التألُّم، وإسباغُ الوضوءِ في شدَّة البَرْدِ من أفضَل الأعمال. وفي "صحيح مسلم" (٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ألا أَدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفعُ به الدَّرجات؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: إسباغُ الوُضوءِ على المكارِهِ، وكثرةُ الخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصَّلاة بعدَ الصَّلاة، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباط". وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه رأى ربَّه عزَّ وجلَّ - يعني في المنام - فقال له: يا محمد! فِيمَ يختصِمُ الملأُ الأعلى؟ قال: في الدرجات والكفَّارات. قال: والكفَّاراتُ إسباغُ الوُضُوء في الكريهاتِ، ونقلُ الأقدام إلى


(١) في ش، ع: "وقوموا، لما طال ليل الشتاء كان قيامه يعدِلُ .. ".
(٢) بعدها في ب: "ولذاذة التهجد".
(٣) هو معضد بن يزيد العجليّ، يكنى أبا ذر، لم يحفظ له حديث مسند، وإنما كان مشغولًا بالتعبّد. وفي الحلية: "معضد أبو زيد العجلي"، والخبر في ترجمته في "حلية الأولياء" ٤/ ١٥٩ و "صفة الصفوة" ٣/ ٤٣.
(٤) اليَعسُوب: ذكر النحل.
(٥) داود بن رُشيد، أبو الفضل الخوارزمي البغدادي، صاحب حديث، ثقة، مات سنة ٢٣٩ هـ. (سير أعلام النبلاء ١١/ ١٣٣).
(٦) الحلية ٨/ ٣٣٥ ونسب الذهبي الخبر إلى داود نفسه في سير أعلام النبلاء ١١/ ١٣٤.
(٧) رواه مسلم رقم (٢٥١) في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والموطأ ١/ ١٦١ في قصر الصلاة في السفر: باب انتظار الصلاة والمشي إليها، والترمذي رقم (٥١) في الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء، والنسائي ١/ ٨٩ و ٩٠ في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء.

<<  <   >  >>