للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان بعضُ الأمراء يصُونُ نفسَه من الحَرِّ والبَرْدِ بالكُليَّة حتى لا يُحِسَّ بهما بدَنُه، فَتَلِفَ باطنُه وتُعجِّل موتُه. فإن الله تعالى بحكمته جَعَلَ الحَرَّ والبَرْدَ في الدنيا لمصالح عِباده؛ فالحَرُّ لتحلُّلِ الأخلاط، والبَرْدُ لجمودِها؛ فمتَى لم يُصبِ الأبدانَ شيء من الحَرَّ والبَرْدِ تعجَّلَ فسادُها، ولكن المأمورُ به اتقاءُ ما يؤذِي البَدَنَ من ذلك، فإن الحَرَّ المؤذِي، والبرد المؤذي معدودان من جملة أعداء بني (١) آدم. قيل لأبي حازم الزاهد: إنك لتشدِّدُ، يعني في العبادة. فقال: وكيفَ لا أُشَدِّدُ وقد ترصَّد لي أربعةَ عَشَرَ عدُوًّا. قيل له: لكَ خاصَّةً؟ قال: بل لجميع من يعقِلُ. قيل له: وما هذه الأعداء؟ قال:

أمَّا أربعةٌ فمؤمِنٌ يحسُدني، ومنافِقٌ يبغُضُني، وكافِرٌ يقاتِلُني، وشيطان يُغويني ويُضِلُّني. وأَمَّا العشرَةُ: فالجوعُ، والعطشُ، والحَرُّ، والبَرْدُ، والعُرْيُ، والمَرَضُ، والفاقَةُ، والهَرَمُ، والمَوْتُ، والنَّارُ؛ ولا أطيقُهُنَّ إلَّا بسلاحٍ تامٍّ، ولا أجِدُ لَهُنَّ سِلاحًا أفضَلَ مِن التقوَى. فَعَدَّ الحَرَّ والبَرْدَ من جملة أعدائه.

وقال الأصمعي: كانت العربُ تُسمِّي الشتاءَ الفاضِحَ، فقيل لامرأة منهم: أيُّما أشَدُّ عليكم؛ القيظُ أم القُرُّ؟ قالت: سبحان الله! مَنْ جعل البؤس كالأذى؟ فجعلت الشتاءَ بؤسًا، والقيظَ أذىً. قال بعضُ السَّلف: إن الله تعالى وصَفَ الجنَّة بصفة الصَّيف لا بصفة الشتاء، فقال تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} (٢). وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: ١٣] (٣)؛ فنفَى عنهم شِدَّة الحَر والبَرْدِ. قال قَتَادة: علِمَ الله أن شِدَّةَ الحَر تؤذِي، وشدَّةَ البَرْدِ تؤذِي؟ فوقاهم أذاهما جميعًا.

قال أبو عمرو بن العلاء: إني لأبغُضُ الشتاءَ لنقص الفروضِ، وذهابِ الحقوقِ،


(١) في ب، ط: "ابن آدم".
(٢) سورة الواقعة الآيات ٢٨ - ٣٢.
(٣) سورة الإنسان الآية ١٣.

<<  <   >  >>