للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفيه (١) أيضًا: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ الشيطان قال: وعِزَّتِكَ يا ربّ، لا أبرَحُ أغوِي عبادَك ما دامَتْ أرواحُهم في أجسادهم. فقال الرَّبُّ عزَّ وجلَّ: وعِزَّتي وجلالي، لا أزالُ أغفِرُ لهم ما استغفروني".

ذكر ابن أبي الدنيا (٢) بإسنادٍ له: أنَّ رجلًا من ملوك البصرة كان قد تَنَسَّك، ثم مال إلى الدُّنيا والشيطانِ (٣)، فبنَى دارًا وشيَّدها، وأمر بها ففُرِشَتْ له ونُجِّدَتْ، واتَّخَذَ مأدُبَةً، وصَنَعَ طعامًا وَدَعَا الناسَ، فجعلُوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويَعجبون (٤) منه، ويدْعُون له ويتفرَّقون. فمكَثَ بذلك أيامًا حتى فَرَغَ من أمر الناس. ثم جلس في نفرٍ من خاصَّة إخوانه (٥)، فقال: قد ترون سُروري بداري هذه، وقد حدَّثت نفسي أن أتخذَ لكُل واحدٍ من ولدي مثلَها، فأقِيموا عندي أيامًا أستمتِع بحديثكم وأشاوِركم فيما أريد من هذا البناء لولدي، فأقاموا عندَه أيامًا يَلْهُون وَيلْعَبُون ويشاوِرُهم كيفَ يَبني لولده، وكيف يُريدُ أن يَصْنَعَ. فبينما هم ذاتَ ليلةٍ في لهوهم إذ سمعوا قائلًا يقول من أقاصي الدَّار:

يا أيُّها البانيُ النَّاسِي مَنِيَّتَهُ … لا تأمنَنَّ (٦) فإنَّ المَوْتَ مكتُوبُ

على الخلائق إن سُرُّوا وإنْ فَرِحوا … فالموتُ حَتْفٌ لِذِي الآمالِ مَنْصُوبُ

لا تبنِيَنَّ دِيارًا لسْتَ تَسْكُنُها … وَرَاجِعِ النُّسْكَ كيما يُغْفَرَ الحُوبُ (٧)

قال: ففزِعَ من ذلك (٨) وفزعَ أصحابُه فزعًا شديدًا، وراعَهُم ما سمِعوا من ذلك، فقال لأصحابه: هل سمِعْتم ما سمِعْتُ؟ قالوا: نعم. قال: فهل تجدون ما أجِدُ؟ قالوا: وما تجدُ؟ قال: أجدُ واللهِ مسْكَةً على قلبي (٩) ما أراها إلا علَّة الموت. قالوا: كلا، بل البقاءُ والعافية. قال: فبكى، وقال: أنتم أخلَّائي وإخواني فما لي عندكم؟


(١) قطعة من حديث طويل رواه أحمد في "المسند" ٣/ ٢٩ والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص ١٣٤، والحاكم في "المستدرك" ٤/ ٢٦١ وصححه ووافقه الذهبي.
(٢) أخرج الحكاية ابن قدامة المقدسي في كتابه "التوابين" عن ابن أبي الدنيا، بنحوه.
(٣) في آ، ش، ع: "والسلطان"، والمثبت من ب، ط.
(٤) في ش، ع: "ويتعجَّبون".
(٥) في ش: "وأصحابه".
(٦) في آ، ش: "لا تأمُلَنَّ".
(٧) الحُوب: الإثم.
(٨) في ب، ط: "لذلك"
(٩) في آ، ش، ع: "فؤادي"، وهما بمعنى.

<<  <   >  >>