للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قالوا: مُرْنا بما أحببتَ. قال: فأَمَرَ (١) بالشراب فأُهريقَ، وبالملاهي فأُخرجت. ثم قال: اللهم! إنِّي أُشهِدُك ومَنْ حَضَرَ من عبادِك أنِّي تائبٌ إليك من جميع ذُنوبي، نادِمٌ على ما فرطت أيامَ مُهلتي، وإياك أسألُ إن أَقَلْتَنِي (٢) أن تُتِمَّ عليَّ نعمتَك بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفِرَ لي ذنوبي تفضلًا منك عليَّ. واشتدَّ به الأمر فلم يزَلْ يقول: الموتُ واللهِ! الموتُ واللهِ! حتى خرجَتْ نفسُه (٣). فكان الفقهاءُ يرون أنَّه مات على توبةٍ.

وروى الواحدي (٤) في كتاب "قتلى القرآن" بإسنادٍ له، أن رجلًا من أشراف أهل البصرة كان مُنحدِرًا إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يومًا، وغنَّتْهُ جاريتُه بعودٍ لها، وكان معهم في السفينة فقيرٌ صالحٌ، فقال له: يا فتى! تُحسِنُ مثل هذا؟ قال: أحْسِنُ ما هو أحسَنُ (٥) منه. وكان الفقيرُ حسَنَ الصَّوتِ، فاستفتح وقرأ: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (٦)، فرمَى الرجُلُ ما بيدِهِ من الشراب في الماء، وقال: أَشهدُ أن هذا أحسنُ مما سَمِعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم، فتلا عليه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (٧)، الآية. فوقعت من (٨) قلبه مَوْقعًا، ورَمَى بالشراب في الماء، وكسَرَ العُودَ، ثم قال: يا فتى! هل هنا (٩) فرجٌ؟ قال: نعم، {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (١٠)، الآية. فصاح صَيْحَةً عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.


(١) في آ: "فأمرهم"، وفي ش، ع: "فأمرنا".
(٢) في ش، ع: "قبلتني". وأقال الله عثرته: أي صفح عنه وتجاوز.
(٣) في ب، ط: "روحه".
(٤) في آ، ش، ع: "عبد الواحد"، والمثبت من ب، ط. وهو علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي، مفسر، عالم بالأدب، له عدد كبير من المصنفات. توفي سنة ٤٦٨ هـ -. (انظر سير أعلام النبلاء ١٨/ ٣٣٩ ومصادر ترجمته) ولم تذكر المصادر كتابًا للواحدي بهذا الاسم، وإنما ذكرت له كتابًا في "علم فضائل القرآن".
(٥) في ش، ع "أحسن من هذا".
(٦) سورة النساء الآية ٧٧ و ٧٨.
(٧) سورة الكهف الآية ٢٩.
(٨) في ب، ط: "في قلبه".
(٩) في آ، ط: "ها هنا".
(١٠) سورة الزمر الآية ٥٣.

<<  <   >  >>