للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له أن صالحًا المُرِّيَّ رحمه الله كان يومًا في مجلسه يقُصُّ على الناس، فقرأ عنده قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (١)، فذكر صالحٌ النار وحالَ العصاةِ فيها، وصِفَةَ سياقهم إليها، وبالَغَ في ذلك وبكى الناس، فقام فتىً كان حاضرًا في مجلسه، وكان مسرفًا على نفسه، فقال: أكُل هذا في القيامة؟ قال (٢) صالح: نعم، وما هو أكثر (٣) منه، لقد بلغني أنهم يصرُخُون في النار حتى تنقطِعَ أصواتُهم فلا يبقَى منهم إلَّا كهيئة الأنين من المريض المدنِفِ، فصاح الفتى: أيا لله (٤)! وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه! وا أسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا! ثم استقبل القِبْلَةَ، وعاهَدَ الله على توبةٍ نصوح، ودعا الله أن يتقبَّل منه وبكَى حتى غُشِي عليه، فَحُمِلَ من المجلس صريعًا، فمكث صالحٌ وأصحابُه يعودونه أيامًا، ثم مات، فحضره خَلْقٌ كثير، فكان صالحٌ يذكُرُه في مجلسه كثيرًا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن! وبأبي قتيل المواعظ والأحزان! فرآه رجل في منامه، فقال: ما صنعتَ؟ قال: عمَّتْنِي بركةُ مجلسِ صالحٍ فدخلْتُ في سعة رحمة الله التي {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (٥).

مَن آلمتْهُ سِياطُ المواعظِ فصَاحَ فلا جُناحَ، ومن زاد ألمه فمات فدمُهُ مُبَاح.

قَضَى اللهُ في القَتْلَى قَصَاصَ دِمائِهِمْ … ولكِنْ دِمَاءُ العاشِقينَ (٦) جُبَارُ

وبقي ها هنا قسمٌ آخرُ، وهو أشرفُ الأقسام وأرفعُها، وهو من يفني عمرَه في الطاعة، ثمَّ يُنبَّه على قرْب الأجلِ، لِيَجِدَّ في التزوُّد ويتهيَّأ للرحيل بعمل يصلُحُ لِلِّقاء ويكون خاتمةً للعمل. قال ابنُ عباس: لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (٧) نُعِيتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسُه، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمرِ الآخرة.


(١) سورة غافر الآية ١٨.
(٢) في ب، ط: "فقال".
(٣) في ب، ط: "أكبر".
(٤) في آ: "أنا لله"، وفي ش، ع: "إنَّا لله".
(٥) سورة الأعراف الآية ١٥٦.
(٦) في آ، ش: "الخائفين". والجُبار من الدم: الهَدَرُ.
(٧) سورة النصر الآية ١.

<<  <   >  >>