للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقالوا: لا، وقالوا له: قد رُخِّصَ لكَ في الفَرْضِ وأنتَ متطوِّعٌ، قال: أجل، امهلوا (١)، ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} (٢)، ثم خرجَتْ نفسُه وما أفطَرَ.

الدنيا كلُّها شهرُ صيام المتقين، وعيدُ فِطرِهم يوم لقاءِ ربِّهم، ومعظمُ نهار الصيام قد ذَهَبَ، وعيدُ اللِّقاءَ قد اقترَبَ.

وقَدْ صُمْتُ عن لذَّاتِ دَهْرِيَ كلِّها … ويومَ لقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

ولما كان الصِّيامُ سرًّا بينَ العبدِ وربِّه اجتهدَ المخلصون في إخفائه بكلِّ طريقٍ، حتى لا يطَّلِعَ عليهم (٣) أحدٌ. قال بعضُ الصالحين (٤): بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا كان يومُ صَوْمِ أحدِكم فَلْيَدْهُنْ لحيتَه ويمسَحْ شَفتيهِ من دُهنِه، حتى ينظرَ إليه الناظِرُ فيظنَّ أنه ليسَ بصائم. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: إذا أَصْبَحَ أحدُكم صائمًا فليترجَّلْ، يعني يُسرِّحُ شَعرَه ويَدْهُنه؛ وإذا تصدَّق بصدقةٍ عن يمينِهِ فليُخْفِها عن شمالِه، وإذا صلَّى تطوعًا فليُصلِّ داخلَ بيته. (٥). وقال أبو التَّيَّاح (٦): أدركتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ، إذا صام أحدُهم ادَّهَنَ ولبِسَ صالحَ ثيابِه.

صام بعضُ السَّلَفِ أربعين سنةً لا يَعلمُ به أحدٌ؛ كان له دُكَّانٌ (٧)، فكان كلَّ يوم يأخذ من بيتِه رغيفينِ، ويخرجُ إلى دكَّانِه، فيتصدَّقُ بهما في طريقه، فيظُنُّ أهلُه أنه يأكلهما في السوقِ، ويظُنُّ أهلُ السوقِ أنه قد أكلَ في بيته قبل أن يجيءَ. اشتهر بعضُ الصالحين بكثرة الصِّيامِ فكان يقومُ يومَ الجمعة في مسجد الجامعِ فيأخذُ إبريقَ الماءِ (٨)، فيضعُ بُلْبُلَتَهُ (٩) في فيه ويمتصُّها والنَّاسُ ينظرون إليه ولا يَدْخُلُ حلقَه منه شيءٌ؛ لينفيَ عن نفسِه ما اشْتُهر به من الصَّوم.


(١) في ب، ط: "قال: امهل".
(٢) سورة الصافات الآية ٦١.
(٣) في ب، ط: "عليه".
(٤) في ش، ع: "بعض السلف".
(٥) شطره الأول من حديث مرفوع، في صحيح البخاري، في الصوم: باب اغتسال الصائم.
(٦) هو يزيد بن حُميد الضُّبَعي البصري، أبو التَّيَّاح، مشهور بكنيته، ثقة ثبت. مات سنة ١٢٨ هـ.
(٧) الدُّكَّان: الحانوت، فارسي معرب.
(٨) في آ: "فيأخذ الإِبريق".
(٩) بُلْبُلَةُ الإِبريق: قناته التي يَنْصَبُّ منها الماء.

<<  <   >  >>