الملوك أحسن من سيرته ولا اكثر تحرّيا للعدل منه وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرّف في الذي يخصّه الا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة. ولقد شكت اليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين دينارا. فلما استقلّتها قال: ليس لي الا هذا وجميع ما بيدي انا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا اخوض نار جهنّم لأجلك. ولما مات ملك بعده ابنه الملك الصالح اسماعيل وكان عمره احدى عشرة سنة وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه. وفي سنة سبعين وخمسمائة لما ملك سيف الدين غازي الديار الجزرية خاف الأمراء الذين في دمشق وحلب لئلا يعبر إليهم سيف الدين فسيّروا الملك الصالح ومعه العساكر الى حلب ليصدّ سيف الدين عن العبور الى الشام. فلما خلت دمشق عن السلطان والعساكر سار إليها صلاح الدين فملكها وملك بعدها حمص وحماة وبعلبكّ وسار الى حلب فحصرها. فركب الملك الصالح وهو صبيّ عمره اثنتا عشرة سنة وجمع اهل حلب وقال لهم: قد عرفتم احسان ابي إليكم ومحبّته لكم وسيرته فيكم وانا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد احسان والدي اليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله ولا الخلق. وقال من هذا كثيرا وبكى فأبكى الناس واتفقوا على القتال دونه فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن [١] ولا يقدر على القرب من البلد فرحل عنه. وفيها ملك البهلوان مدينة تبريز. وفي سنة احدى وسبعين ملك صلاح الدين قلعة عزاز ونازل حلب وبها الملك الصالح وقد قام العامّة في حفظ البلد المقام المرضيّ وتردّدت الرسل بينهم في الصلح فوقعت الاجابة اليه من الجانبين ورحل صلاح الدين عن حلب بعد ان أعاد قلعة عزاز الى الملك الصالح فانه اخرج الى صلاح الدين أختا له صغيرة طفلة. فأكرمها صلاح الدين وقال لها: ما تريدين.
قالت: أريد قلعة عزاز. وكانوا قد علّموها ذلك. فسلّمها إليهم ورحل. وفي سنة ثلث وسبعين قتل عضد الدين وزير الخليفة المستضيء ووزر ظهير الدين المعروف بابن العطّار وكان خيرا حسن السيرة كثير العطاء وتمكن تمكنا كثيرا.
وفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة ثاني ذي القعدة توفّي الامام المستضيء بأمر الله وكانت خلافته نحو تسع سنين وعمره تسع وثلثون سنة وكان عادلا حسن السيرة في الرعية قليل المعاقبة على الذنوب محبا للعفو فعاش حميدا ومات سعيدا.
[١-) ] جوشن بالجيم المعجمة جبل مطل على حلب في غربيها ومنه كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه.