الاستعمارية في مهمتها، إذ ما كادت الثورة تندلع حتى اختفت صناعتنا التقليدية، وصارت الجزائر تستورد كل شيء تقريباً، واختفت مصانع الأسلحة والبارود، وورشات البحرية الخاصة بصناعة السفن. وبالمقابل تضاعفت كميات المعادن المنجمية المستخرجة، والتي أصبحت سنة ١٩٥٤، حوالي ستمائة ألف طن من الفوسفات، وثلاثة ملايين ونصف مليون طن من الحديد، وأربعمائة ألف طن من الفحم، إلخ ... (١٩).
وبقدر ما أنهك الاستعمار صناعتنا، قبل أن يقضي عليها، فإنه خنق التجارة الخارجية التي كانت، هي الأخرى، مزدهرة قبل الغزو الفرنسي. قد يبدو أن قولنا هذا مجرد إدعاء، ولكن المصادر، على اختلاف لغاتها، تثبت بأن الجزائر، قبل الاحتلال كانت تقيم علاقات تجارية مكثفة مع افريقيا جنوب الصحراء، ومع البلاد العربية وأوربا الغربية خاصة (٢٠)، وبأن تجارتها تلك كانت مخططة وتدر على البلاد أرباحاً كثيرة، تستثمر في سائر الميادين. ثم جاءت آفة الاستعمار، وما كادت تمر السنوات الأولى من الغزو حتى أصبح ميزان التجارة الخارجية الجزائرية خاسراً لأن كل عمليات التصدير والتوريد صارت مقصورة على فرنسا.
وفي العشرية التي سبقت ثورة نوفمبر سنة ١٩٥٤، لم يعد في استطاعة أي عاقل الحديث عن تجارة الجزائر الخارجية، بل كل ما هناك عمليات احتكارية تقوم بها كمشة من المستعمرين، يجمعون الأرباح لأنفسهم على حساب فرنسا والجزائر في آن واحد (٢١).
وفي المجال الثقافي، فإن الثورة قد اندلعت عندما كان الاستعمار قد انتهى تقريباً من مهمته الأساسية، الخاصة بالمسخ والتشويه والتجهيل (٢٢).
ففي السنوات الأولى من الاحتلال وبالتوازي مع ما كان به من نهب للثروات الوطنية واستيلاء على الأراضي الخصبة الشاسعة، يوزعها على الكولون الجدد وعلى المؤسسات الاستعمارية المختلفة، راح يوظف كل ما لديه من قوة، ظاهرة أو باطنة، للقضاء على مصادر الثقافة الوطنية. فهدم كثيراً من المساجد (٢٣)، وحول أعداداً كثيرة منها إلى كنائس أو ثكنات أومستوصفات (٢٤) وحتى إلى ملاهي لأجناده وماخورات عمومية. وفي نفس السياق وجه ضربات قاسية للمثقفين الجزائريين فقتل من قتل ونفى من نفى وزج في السجون بمن شاء وظل يطارد ويضطهد كل من بقي طليقاً قصد منعه من القيام بواجبه نحو المجتمع وبذلك صارت الإحصائيات تشير قبل اندلاع ثورة نوفمبر إلى أن حوالي ١٩% فقط، من الجزائريين متعلمون، يدخل في هذه النسبة المئوية من