لقد تعرضنا، في الفصل السابق، إلى تقييم الانتصارات التي حققتها اتفاقيات إيفيان بالنسبة لجبهة التحرير الوطني، وذكرنا أن الأهداف التي سطرتها هذه الأخيرة أنجزت في مجملها، وإذا كان المتفاوضون الفرنسيون لم يتمكنوا من المس بسلامة التراب الوطني ووحدة الشعب الجزائري رغم محاولاتهم المتعددة وإمكانياتهم المتنوعة فإنهم توصلوا، في نهاية الأمر، إلى فتح بعض المنافذ لإرساء قواعد الاستعمار الجديد ومنع الثورة من التواصل في الطريق المؤدية إلى استكمال تحرير الإنسان وأهم هذه المنافذ، في نظرنا، هي:
١) - تمكين الأوربيين من وضع خاص يجعلهم يستفيدون من الجنسيتين الجزائرية والفرنسية لمدة ثلاث سنوات، تحترم خلالها خاصيتهم الغربية واللغوية والدينية. وتباعاً لذلك، فإن المدن ذات الأغلبية الأوربية تكون متميزة عن سائر المدن الجزائرية، وتتعهد السلطات الجزائرية بعدم الاقتصاص من الفرنسيين والجزائريين الذين ناهضوا الثورة بأشكال وطرائق مختلفة.
لقد كانت السلطات الفرنسية تعتقد أن هذا البند، من اتفاقيات إيفيان، سوف يبقي الجزائر في أسر فرنسا لأن الأوربيين والعملاء من الجزائرين كانوا يشغلون على الأقل تسعين بالمائة من مناصب المسؤولية في مجالات الإدارة والاقتصاد والقضاء، وبالتالي فإن جبهة التحرير الوطني لن تتمكن من بناء المجتمع وإقامة الدولة المذكورين في نصوصها الأساسية، إذ من المستحيل مواصلة العمل الثوري بواسطة الإمكانيات البشرية التي أعدتها السلطات الاستعمارية بهدف الإبقاء على مصالحها وإلا كانت الثورة والاستعمار شيئاً واحداً.
ودائماً في إطار هذه النقطة، تشير اتفاقيات إيفيان إلى أن الجزائر المستقلة ملزمة باحترام ملكيات هذا الصنف من السكان وبعدم اتخاذ أي إجراء يجردهم من أملاكهم بتعويض عادل يحدد مسبقاً ويكون مقبولاً. معنى ذلك أن الأوربيين والعملاء يظلون محتفظين بكل ماهو بحوزتهم من مكتسبات بجميع أنواعها، وإذ أرادت جبهة التحرير الوطني أن تكون وفية للأهداف المنصوص عليها في المواثيق القديمة والجديدة فإنها تكون مجبرة على تقديم أموال طائلة لايمكن للخزينة العامة توفيرها.