إن التمعن في كل هذه النقاط، والتوقف ملياً عند سائر جزئياتها يدعون الدارس بالضرورة إلى إعادة النظر في كيفية تعامل المؤرخين الفرنسيين وتلامذتهم من الجزائريين مع ما وقع في شهر مايو ١٩٤٥ هل كان بالفعل مظاهرات استفزازية وعفوية؟ أم هي أحداث دامية تسبب فيها المتطرفون الجزائريون والفرنسيون على حد سواء؟ أم هي تمردات عشوائية سببها الجوع والحرمان فقط؟ أم هي انتفاضة شعبية فشلت بسبب عدم وجود القائد والمخطط؟
وهل يمكن التحدث عن فاتح مايو بمعزل عن ثامنه؟ وهل إن ما جرى قد اقتصر على يومي الفاتح والثامن مايو سنة ١٩٤٥؟ وهل يمكن القول: إن مايو ١٩٤٥ هو أساس ثورة ١٩٥٤؟
كل هذه الأسئلة طرحناها بإلحاح على عدد كبير من مسؤولي الحركة الوطنية ممن كان بيدهم الحل والربط في ذلك الوقت (٦٥)، ثم عدنا بها إلى مختلف النصوص المعاصرة بقطع النظر عن الجهات الصادرة عنها، وانتهينا، بعد بحث وتمحيص إلى أن ماجرى في شهر مايو ١٩٤٥ كان حركة ثورية جاءت تتويجاً لعمل نضالي تواصل بدون انقطاع طول المدة التي دامتها الحرب الامبريالية الثانية. وإذا كان يوما الفاتح والثامن من مايو يرمزان إلى محطتين رئيسيتين في مسار تلك الحركة، فإن الشهر كله قد تميز بالنشاط الثوري الذي فتحت له الجماهير الشعبية أحضانها المتينة والذي تطور بسرعة فائقة عبر مختلف أنحاء شمال شرقي البلاد وكان من الممكن أن يمتد إلى سائر أرجاء الوطن لولا إحجام القيادة وترددها أمام عمليات القمع الأعمى التي قامت بها سلطات الاستعمار على مسمع ومرأى ممثلي الحلفاء المنتصرين الذين كان سكوتهم دليلاً قاطعاً على تبنيهم للجريمة الفرنسية وارتياحهم لوقوعها.
[أحداث الفاتح من مايو ١٩٤٥]
إن اللجنة المديرة لحزب الشعب المحلول هي التي قررت بالإجماع تنظيم مظاهرات شعبية بمناسبة الاحتفالات بعيد الطبقة الشغيلة، ولقد اتخذت قرارها ذلك عشية الفاتح من مايو نفسه ووجهت تعليماتها في تلك الليلة إلى كافة الهيآت الحزبية وهي تهدف من وراء ذلك، إلى التدليل على نفاذها المحكم في أوساط الجماهير الشعبية، وعلى أنها محل ثقة الشعب الجزائري الذي تتحدث باسمه وتعمل من أجل تحريره وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه.