ويذكر المسؤولون السياسيون (٦٦) الذين باشروا الأعمال التحضيرية وأشرفوا على سير الأحداث فيما بعد، أن المدن الجزائرية الكبرى ومدينة العاصمة على وجه الخصوص قد عاشت ليلة بيضاء وتحولت إلى ورشات كبيرة للإنجاز، وما كاد الصباح يلوح حتى وجدت الأعلام الوطنية بالمئات، وكتبت اللافتات باللغتين العربية والفرنسية، وتم تعيين فرق التأطير والإسعاف والإسناد والتحريض، وضبطت مراكز انطلاق المتظاهرين، وحددت نقاط التقاط الروافد الشعبية والمحطات النهائية. كل ذلك في سرية تامة تدل، بما لا يدع أي مجال للشك، على قدرة فائقة في التخطيط والتسيير، وعلى سيطرة القيادة على قواعدها وتفاعلها مع إطاراتها ومناضليها.
لم تكن قيادة حزب الشعب الجزائري تريد، فقط، المشاركة في احتفالات أول مايو بل إنها كانت ترمي إلى توظيف تلك المناسبة من جهة لتختبر مدى قدرتها على تعبئة الجماهير وتجنيدها، ولتعلم إلى أي حد تستطيع هذه الأخيرة أن تسير وراءها بكل الثقة التي لا بد منها لنجاح المشاريع الحيوية، ومن جهة أخرى، فإن اللجنة المديرة كانت تسعى إلى اجتياح الشارع بقوتها الحقيقية حتى يتغير رأي الحلفاء ويتأكدوا من التفاف أغلبية الشعب الجزائري حول الحركة المصالية في نضالها من أجل استرجاع السيادة الوطنية وإقامة الجمهورية الجزائرية المستقلة عن فرنسا.
على هذا الأساس، سهرت قيادة الحزب السرية على أن تكون المظاهرات التي تنظمها مغايرة تماماً، شكلاً ومضموناً، للمظاهرات التي تعودت النقابات تنظيمها بتلك المناسبة. أما من حيث الشكل فإنها قررت أن تجعل منها نموذجاً للعلم المتقن وللجدية والانضباط اللذين ينمان عن وعي المشاركين بخطورة الموقف وقدرتهم الفائقة على تطبيق التعليمات، وأما فيما يخص المضمون، فإنها، رغم احترامها للمطالب العادية التي ينادي بها العمال في مثل تلك التجمعات، قد قررت أن يرفع المتظاهرون شعارات وطنية فيها مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وفي مقدمتهم زعيم الشعب الجزائري السيد الحاج مصالي، وبحق الجزائر في تقرير مصيرها بنفسها وفي استرجاع سيادتها وإقامة المؤسسات الوطنية المستقلة. ولإعطاء كل تلك الشعارات وزناً أثقل وقيمة أعظم كان لا بد من رفع الأعلام الوطنية التي صدرت تعليمات صارمة برعايتها وحماية رافعيها والاستماتة في الدفاع عنها كي لا تقع في أسر الشرطة الاستعمارية.